IMLebanon

الوضع الأمني غير ممسوك ولا يبشِّر بالخير

 

 

 

كفانا تستُّراً بورقة التِّين، ولم يعد بالمقبول دفن الرأس في الرَّمال تعامياً عن كل ما يحصل من خروقاتٍ أمنيَّةٍ خطيرة تَهرُّباً من المَسؤوليَّات. صحيح أن لبنان ليس بخير على كافَّة المُستويات، سياسيَّاً واقتصاديَّاً وماليَّاً واجتماعيَّاً ومَعيشيَّاً… الخ ولكن أخطر ما في الأمر يتمثَّلُ في تفلُّتِ الوضع الأمني وخروجه عن السَّيطرةِ إن لم يبادر المسؤولون إلى تدارك الأمر والتَّصدي لجماعاتِ الإجرامِ المُنظَّمِ ولجمِ كل من تسوِّلُ له نفسه خرق القانون. قد يحتمل المواطن اللبناني وزر المُناكفات السياسيَّةِ ويتعايش معها، وقد يكيِّفَ نفسه ويتعايشَ مع الأزماتِ الاقتِصاديَّةِ والماليَّةِ والمَصرِفيَّةِ والنَّقديَّةِ والمَعيشيَّةِ رغم قساوتِها وثقلِها، إلاَّ أنه لا يستطيع التَّكيُّفَ مع انفِلات الوضع الأمني وتفشي الجريمةِ على أشكالِها وأنواعِها، لأنها تضع حياته وأمواله واستقراره وأمنه في خطرٍ مُستدام.

من الطَّبيعي أن نلحظَ، في ظِلِّ حالةِ عدمِ الاستقرارِ السِّياسي والصُّعوباتِ وانهيار الوضع الاقتصادي وتردي الأوضاع المعيشيَّةِ ارتفاعاً لمعدَّلِ الجريمةِ عامَّةً ولنشاطاتِ الجماعاتِ الإجراميَّةِ المُنظَّمة على وجه التَّحديد، إلاَّ أن المُستغربَ اكتفاءُ المسؤولين بالتَّنديد بتلك الارتكاباتِ والإعرابِ عن مشاعر التعاطفِ مع الضَّحايا سواء كانوا مواطنين أم من الأخوة العرب أو أي مقيم أجنبي على الأراضي اللبنانيَّة. ذلك لأن مكافحةَ الجريمة لا تتمُّ بالشِّعارات ولا بإطلاق المواقفِ والوعود إنما بالأفعال.

وإن كُنَّا نثمّنُ المواقفَ التي يُطلِقُها كل من دولة رئيس مجلس الوزراء ومعالي وزير الدَّاخليَّة والبلديات والذي يبذل جهداً كبيراً في معرضِ قيامِهِ بأعباءِ الوزارة إداريَّاً وأمنيَّا، وهو لا يألو جهداً في توفير الغطاء السِّياسي للأجهزةِ الأمنيَّة المَسؤولةٌ عن اتِّخاذِ الخَطواتِ العمليَّة، وأعني بذلك اتخاذ تدابير وقائيَّة فاعلة لتوقّي تفشّي الظاهرةِ الإجراميَّة، وقمع ما يحصلُ منها وملاحقةِ المُساهمين فيها، وسوقِهم إلى القضاء المختص المسؤول عن مُحاكمتهم؛ وهذا ما يدفعنا للقولِ بل التأكيد على أن أجهزةَ إنفاذِ القانون مُجتمعةً بالتَّكافُلِ والتَّضامنِ عن التَّصدي لمُختلِفِ الظَّواهِرِ الإجرامِيَّةِ، كلٌ وفق اختصاصه ومسؤوليَّاتِه الدستوريَّةِ والقانونية.

إن حادثة الاختطاف التي تعرَّضَ لها المواطن السُّعودي الشَّقيق، والذي يعمل لدى شركة الخطوط الجويَّة السُّعوديَّة في لبنان، ليست الحادثة الفريدة من نوعِها، بل يمكننا القول أن لبنان سبق له وعانى من عمليَّاتِ خطف أفراد لبنانيين وأجانب بدافعِ الحصول على فدية ماليَّة، ونشكرُ الله أن دوافع هذه الجريمة تكشَّفت وتبيَّنَ أنها ارتكبت لدوافعَ شخصيَّةٍ لا سياسِيَّة، وأنه تم كشفُها وتحريرُ المَخطوفِ وتوقيفِ عددٍ من المُتورِّطين في الجريمَةِ خِلالَ فترَةٍ زمنيَّةٍ مقبولة أو قصيرة نسبياً، وقبل تمكُّن الخاطفين من نقل المخطوف لخارج الأراضي اللبنانيَّة وإلاَّ لكانت تفاقمت الأمور وازدادت تعقيداً ولكثرت التَّكهُّنات حول أسبابها ودوافِعِها ومن يقفُ خلفها، ولربما لكان لها تبعاتٌ سياسيَّةٌ واقتصاديَّةٌ ولأثَّرت سلباً على موسِمِ السِّياحَةِ الواعِدِ في لبنان هذا الصَّيف.

السؤال الذي يطرحُ ذاته اليوم: كيف للبنان أن يعمل على تداركِ حصول مثل هذه الجريمة أو تِكرارها؟ لأن المتورطين فيها ليسوا وحدهم من يقف خلف هذا النَّوع من الإجرام، بل إن معظمَ الضَّالعين في جرائم المخدِّرات وسرقةِ السَّيَّاراتِ والاتِّجار غير المشروع بالأسلِحة، وهم كثر، لديهم القابليَّة للإنخراط بمثل هذا الأفعال الجُرميَّةِ الخطرة، خاصَّةً تلك التي توفِّرُ لهم عائدات ماليَّة ضَخمة تُناهز ما يستحصلون عليه من جرائمَ أخرى.

إن لبنان على المُستوى الرسمي قطع وعداً لأشقَّائه العرب كما للمجتمع الدَّولي أنه سيعمل على تعزيز الإجراءاتِ الأمنيَّة، وبخاصَّةٍ تلك الهادفةِ إلى الحد من تهريب المخدرات من لبنان أو عَبرهُ إلى دُول الخليج العربي الشَّقيقة. كما أن لبنان على أبواب موسِم سياحي واعد هو بأمسّ الحاجةِ إليه إن كان على مستوى العائدات الماليَّة كما على مستوى إعادةِ ترميمِ العلاقاتِ بينه وبين أشقائه العرب من خلال عودة الرعايا العرب للتَّردُّدِ إلى الربوع اللبنانيَّة. هذا عدا عن أن الدَّولةَ اللبنانيَّة مسؤولة عن استِتبابِ الوضعِ الأمني على كامِلِ إقليمِها، وتوفيرِ الأمنِ والأمانِ لمواطنيها ولمُختلفِ المُقيمين على أرضِها.

ليس بخافٍ على أحد أن ثمَّةَ وهن أمني في بعضِ المناطِقِ اللبنانيَّةِ ولو بنِسبٍ مُتفاوتة، وتكادُ تكونُ بعضُ المناطِقِ خارجَ سيطرةِ الدَّولةِ وأجهزتها العسكريَّةِ والأمنيَّة التي تجد صعوبةً في قيامِها بواجِباتها في إطارِ إحكامِ السَّيطرةِ الأمنيَّةِ الكاملةِ عليها، وخاصَّةً في منطقتي الضَّاحيَةِ الجنوبيَّةِ ومحافظة بعلبك – الهرمل حيث تسودُ الحلول والتَّسوياتُ وفق المفاهيمِ العَشائريَّةِ والتي تطغى عليها سطوةُ النفوذِ العشائري والسِّلاحِ المُتفلِّت، والذي لا يقتصرُ على الأسلِحةِ الخفيفةِ بل يتعدى ذلك إلى حيازةِ بعضِ الجماعاتِ الإجراميَّةِ لأنواعٍ من الأسلحةِ المُتوسِّطةِ والثَّقيلة، إلى حد تدفعُ ببعضِها إلى التَّجرؤ على التعدي على القوى العسكريَّةِ والأمنيَّة، وهذا ما يدعونا للتفكير مليَّاً بمعاناة المواطنين العُزل والشُّرفاء الذين لا حول لهم ولا قوَّة، بعدَ أن خذلتهم الدَّولةُ التي استجاروا بها مراراً وتِكراراً للقيامِ بواجِبِها الأمني، لذا يجدون أنفسَهُم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما مُغادرة المنطقةِ أو الرُّضوخ والخنوعِ لمَشيئةِ المُجرمين الأشرار.

البعضُ يلقي بالمسؤوليَّةِ عن الخلل الأمني في منطقتي الضَّاحِيةِ الجَنوبيَّةِ والبقاع الشَّمالي (بعلبك – الهرمل) جهارةً على حِزبِ الله وبعضٌ آخر يغمزُ من طرفِه بإلقاءِ التهمةِ على قوى الأمرِ الواقع، وبعضٌ ثالثٌ يومئ إلى أن التَّفَلُّت الأمني محصورٌ بما يُسمى بالبيئةِ الحاضِنةِ لِحزبِ الله، ولكن تقتضي الموضوعيَّةُ منا تَسليطُ الضَّوءِ على مواضِع الخللِ الرَّسمي وغير الرَّسمي، بادئا ذي بدء نقول أن حزب الله ساهم، بشكلٍ أو بآخر عن قصد أو من دونه، في الحدِّ من نشاطاتِ وتحرُّكاتِ القوى العسكريَّةِ والأمنيَّةِ في بعضِ المناطقِ حيث يتمتَّع بنفوذ سياسي، وتدخَّلَ في تسميةِ مسؤولين في تلك المناطقِ محسوبين عليه أو مُقرَّبين منه، ولكن الخللَ الأكبرَ يكمنُ في أن العديد ممن أوكلت إليهم بعض المناصِبِ والمسؤوليَّاتِ الرسميَّةِ الهامَّة بما فيها المهام العسكريَّةِ والأمنيَّةِ انشغلوا بأمورٍ جانبيَّة وتلهّوا بتحقيق مصالِحَ شخصيَّة، وأبهرتهم مواكبهم الفضفاضة، وانشغلوا بالأمور السِّياسيَّةِ أكثر من مسؤوليَّاتِهم الأمنيَّة، وأخذوا يُشيِّعون أن الأمور خارجَ عن السَّيطرة وأن أيَّةَ مُحاولاتٍ لفرضِ هيبةِ الدَّولةِ ومؤسَّساتِها العسكريَّةِ والأمنيَّة مآلها الفشل، وفي حقيقةِ الأمر إن مثل هؤلاء يتحملونَ مسؤوليَّةَ تراجع الأوضاع الأمنيِّة وانهيار هيبةِ الدَّولةِ لضعفِهم وافتقادِهم إلى الشَّجاعةِ التي تتطلبها مواجهةِ الأمور والمسائلِ الأمنيةِ كما ينبغي، مكتفين بتسطير التقارير وكتب المعلوماتِ التي تكتفي بتوصيف ما يحصل.

وتقتضي الموضوعيَّةُ أيضاً التأكيد على ما أكرره دائماً أن الدَّولةَ المسؤولةَ لا تستجدي صلاحِياتِها، وينبغي ألَّا تطلب الإذن من أيَّةِ جِهةٍ للقيامِ بواجِباتِها ومسؤولِيَّاتِها؛ وعلى افتراض أن جهةٌ سياسيَّةٌ ولو مُسلَّحة لا تبدي حماساً للتعاون معها في إطار مكافحة الجريمة هل على الدَّولةِ أن تقف مكتوفةَ الأيدي محجمةً عن القيامِ بواجِباتها؟ أم عليها أن تبادر إلى تحمُّلِ مسؤوليَّاتِها، وفرضِ الأمن على كامِلِ إقليمِها وبخاصَّةٍ في منطقة البقاع الشَّمالي حيث أضحت بعض القرى والأحياء فيها ذات شهرة عالمية ومحليَّة لكثرةِ تداول وسائلِ الإعلامِ لاسمها عند تناولها للاشتباكات التي تحصل فيها ما بين القوى العسكريَّةِ والأمنيَّةِ والخارجين على القانون والمطلوبين للعدالة فيها أم بين بعضهم البعض؟ المنطق يقول بأنه على الدَّولةِ أن تحسمَ أمرها وتُحدِّد خياراتِها وفي حال سعي أيَّةِ جهاتِ حزبيَّةٍ أم غير حزبيَّةٍ لإعاقةِ جهودها عليها فضحُهم على الملأ وتحميلُهم مسؤوليَّات ذلك.

القوى العسكريَّةِ والأمنيَّة غير قاصرة، ولديها ما يكفي من عديد للقيام بهذه المسؤوليَّة، إنما ما ينقًصًها هو الغطاء السياسي، ووضع المسؤول المناسِبِ في المكان المناسب، وإبعاد المُتسلقين ومُصطادي المناصب والمُتخاذلين؛ وعلينا ألاَّ نغفلَ دورَ القضاءِ الحاسِم لجهةِ السرعة في النَّظرِ بالجناياتِ الخطرةِ وأخذه بعين الاعتِبارِ الخُطورةِ الجرميَّةِ عند نُطقِهِ بالأحكام بحقِّ الضَّالِعينَ فيها.