IMLebanon

قصة أوّل محاولتين انقلابيتين في لبنان

قصة أوّل محاولتين انقلابيتين في لبنان

الفرنسيون حاولوا احتلال المجلس عام 1944 وفؤاد لحود يفشل في 1958

في تاريخ لبنان الاستقلالي ثمة كثير من التطورات حصلت كانت أشبه بالانقلابات، وكانت تهدف لتغيير الواقع من حال إلى حال، ومحاولة الحزب السوري القومي الاجتماعي الانقلاب على السلطة في الاول من كانون الثاني عام 1961 لم تكن الأولى التي يشهدها لبنان، فالمحاولة الأولى كانت في العام 1944 بعد الانتخابات النيابية الفرعية التي جرت في 23 نيسان لملء ثلاثة مقاعد نيابية شاغرة في محافظتي جبل لبنان والشمال، ففاز عن مقعدي جبل لبنان فريد الخازن وخليل أبو جودة، وعن الشمال فاز يوسف كرم.

في تلك الأثناء يسجل للعهد الاستقلالي الأول وهو ما يزال في سنته الأولى، أنه كان ما يزال يفاوض الفرنسيين لاسترجاع كامل حقه، في الوقت الذي كانت فيه دول العالم تتسابق للاعتراف باستقلال لبنان.

وقد امتعض مؤيدو الانتداب أن يبدأ كاترو في تسليم الصلاحيات والمصالح الفرنسية، فأخذ أنصار الانتداب يعقدون الاجتماعات لتنظيم صفوفهم مع سيل من الشائعات.

وهكذا مع إعلان نتائج الانتخابات الفرعية وتعيين أول جلسة للمجلس بعد هذه الانتخابات في 27 نيسان، كان هناك محاولة قام بها الفرنسيون للنيل من استقلال لبنان، فكان أن اتخذت الحكومة عدة تدابير منها حصر التظاهرات، وعدم استعمال السلاح من قبل قوى الأمن إلا في حالة التعدي عليها، ومنع الدخول إلى المجلس إلا لحاملي البطاقات، كما وزع رجال الدرك وشرطة المجلس النيابي على جوانب المجلس النيابي لأن الجيش والأمن العام كانا ما يزالان بيد الفرنسيين.

في ذلك اليوم، دخلت بيروت سيارات متعددة من جسر بيروت مع سيارة النائب المنتخب يوسف كرم، متجهة نحو ساحة الشهداء، فتوجه المتظاهرون وهم يحملون العلم اللبناني القديم أي العلم الفرنسي تتوسطه الأرزة، نحو مجلس النواب مخترقين الحواجز حتى وصلوا إلى ساحته، وهنا تقدم أحد المتظاهرين محاولاً رفع العلم الفرنسي على باب المجلس النيابي.

ويقول رئيس المجلس النيابي الاستقلالي الأول صبري حمادة: «شاءت بلدة زغرتا وما جاورها مرافقة نائبها إلى المجلس، وسط مهرجان كبير، فاندس بين صفوفه عدد من المشبوهين المكلفين من قبل الفرنسيين بإفتعال حوادث الشغب للإفادة منها عند بلوغ الموكب ساحة النجمة، والتسلل إلى المجلس بغية احتلاله، وحين بلغتنتا بطريقة ما أخبار ذلك الزحف، اتصلت بفوزي طرابلسي وكان قائداً للدرك، فتعذر عليه مدّنا بالقوة اللازمة مما اضطرني للاكتفاء بالعدد الضئيل مما كان لدينا من الشرطيين واللجوء إلى بندقية وضعتها في حجري وجلست أترقب.. وعند وصول الموكب إلى ساحة النجمة صعد جندي فرنسي، اقتلع العلم اللبناني واستبدله بعلم بلاده، فأطلق عليه العريف ضاهر مشيك، وليس نعيم مغبغب رصاصة قتلته في الحال.. ونسبنا إلى نعيم مغبغب قتل الجندي الفرنسي لكي لا يعاقب الفرنسيون ضاهر مشيك، وكانوا ما يزالون يسيطرون على قيادة الدرك.

وعند سقوط الفرنسي تحت العلم أخذ رفاقه يطلقون علينا الرصاص من بناية البرق والبريد القديمة.. ولم نسمح بدخول أحد ممن رافقوا يوسف كرم فدخل إلى المجلس بمفرده، وبقي منظمو التسلل خارجه.

ويروي قائد شرطة بيروت الأسبق أبو علي قليلات: أن المقاومين من داخل المجلس اشتد ضغطهم على المهاجمين مما اضطر المقتحمين إلى الانسحاب وإني لا أنسى أن الرئيس صبري حمادة كان يحمل بارودة معدلة وهو يقاوم، وبشكل عام فقد رد المعتدون على أعقابهم وفشلت المحاولة الانقلابية الأولى.

المحاولة الانقلابية الثانية

إذا كانت هذه هي المحاولة الأولى التي لا يمكن وصفها بمحاولة انقلاب عسكرية، وإن كانت مدعومة من الفرنسيين، إلا أن محاولة الانقلاب العسكري الأولى خطط لها في العام 1958 مع انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، حيث نشرت مجلة «بيروت المساء» في العدد 24 بتاريخ 26 نيسان 1974 تفاصيل هذه المحاولة، فقالت: يروي العميد انطوان سعد رئيس المكتب الثاني في عهد الرئيس فؤاد شهاب، أن النائب الراحل فؤاد لحود كان حينها عقيداً في الجيش اللبناني عقد اجتماعاً مع الضباط السوريين في موقع يسمى «الخربة» وطلب مساندته في إجراء انقلاب عسكري، يتم بعده تعيين شقيقه النائب الراحل سليم رئيساً للجمهورية، ويتولى هو (أي العقيد فؤاد) قيادة الجيش.

وفي هذا اللقاء قال العميد سعد: تعهد العقيد لحود بأن يعمل العهد الجديد على تدشين علاقاته بسورية وبأن يصل في ذلك إلى أقصى الحدود.

ويروي العميد سعد أنه عرف بذلك الاجتماع من الرئيس صائب سلام وبما دار خلاله فتنبه للأمر، ولكن كما يقول «ساءني ألا يطلعني أصدقاؤنا السوريون على نوايا العقيد لحود، وذات يوم فوجئت بالسيد برهان أدهم يصل إلى مكتبي وكان من عادتي أن ألقاه معانقاً ومقبلاً، ولكنني لم أفعل يومها بل استقبلته ببرود ظاهر، فاستغرب ذلك وسألني: شو القصة؟

قلت: عمتسأل شو القصة؟ روح اسأل العقيد فؤاد لحود.. هيك بيصير.

ومضى سعد قائلاً: وسكت أدهم للحظات ثم قال لن أحكي شيئاً هنا.. وأصر على أن يكون كلامي معك عند الرئيس شهاب.. وبعد إلحاح منه أجريت اتصالاً هاتفياً بالرئيس شهاب، توجهنا بعده، أدهم وأنا، لمقابلته، وما أن وصلنا حتى قال أدهم، اسأل سعد لماذا لم يستقبلني كعادته؟

استغرب الرئيس شهاب، وكان قد انتخب رئيساً للجمهورية، ولم يتسلم سلطاته بعد، أن ينشأ بيننا خلاف، فسألني: شو الحكاية، وعندما شرحتها له، ولم أكن قبل ذلك قد اطلعته عليها، قال أدهم: لقد جئت اليوم لأقدم للرئيس ملفاً كاملاً عن الموضوع وهذا الملف في سيارتي وسأعود به حالاً.

غاب أدهم للحظات وعاد بالملف ليلقيه على مكتب الرئيس شهاب، قائلاً: انتظرنا حتى تستكمل المعلومات اللازمة وحينما تم ذلك جئنا لإطلاعكم عليها.

ويروي العميد سعد أن الرئيس فؤاد شهاب فوجئ تماماً بكل ذلك، وقام يتمشى إياباً وذهاباً في مكتبه كعادته حين يكون غاضباً، ثم طلب مني أن أتابع الموضوع باهتمام.

بعد ذلك عرفت من السوريين، كما يؤكد سعد، أن اجتماعاً آخر سيعقد في دمشق بين لحود وبعض الضباط السوريين لمتابعة بحث الموضوع، فأرسلت ثلاثة ضباط عملوا بالتفاهم مع السوريين على تسجيل كامل الحديث الذي دار خلال الاجتماع.

وكانت هذه التسجيلات دليلاً لا يدحض ضد العقيد فؤاد لحود..

وبعد ذلك كان ما كان ومنها تسريحه من الخدمة العسكرية.

ومحاولة انقلابية في ركن الانتداب

قبل العام 1970 قيل أن سوريا هي أكثر البلدان التي شهدت إنقلابات عسكرية، منذ أول إنقلاب قاده حسني الزعيم ضد شكري القوتلي في العام 1949، مدشناً بذلك عهد الإنقلابات.

وإذا كان ذلك صحيحاً، إلا أن أحداً لم يشر إلى أن لبنان قد يكون أكثر بلدان المنطقة التي شهدت تحولات هي اقرب إلى الإنقلابات، وبعض حالات التمرد كانت أشبه بانقلابات لم يكتب لها النجاح.

لنعود إلى البدايات في عهد الإنتداب الفرنسي، وتحديداً إلى النصف الثاني من عام 1935، بعد انتخاب إميل إده رئيساً للجمهورية في دورة الإقتراع الثانية بأكثرية 14 نائباً، مقابل 11 لبشارة الخوري، والصوت الإضافي في الدورة الثانية كان لعضو الكتلة الدستورية النائب كميل شمعون الذي لم يعين في حكومة إميل إده الأولى برئاسة خير الدين الأحدب وزيراً، فكان أن عاد إلى  الكتلة الدستورية بزعامة بشارة الخوري، أي أن مجلس النواب أصبح مؤلفاً من 13 نائباً للكتلة الوطنية مقابل 12 للكتلة الدستورية.

الصوت الواحد للموالاة زيادة عن المعارضة لم يكن يقنع الدستوريين، ويقول الرئيس بشارة الخوري في مذكراته «حقائق لبنانية»: في يوم التاسع من آذار أيقظني من نومي صبري حمادة وميشال زكور ليعلماني باستعداد الدكتور  محمد أمين قزعون للإنضمام إلى الدستوريين بحيث يصبحون أكثرية، وهو يطلب الإجتماع بنا ليعلن الإنضمام إلينا ببيان معلل، فسررنا بالأمر وابتدأنا إتصالنا به وقررنا إجتماعاً عاماً للدستوريين في دارنا مساء 11 آذار، وبينما نحن نعد بياناً عن انضمام النائب إلينا وأننا اصبحنا أكثرية نستطيع حجب الثقة عن الوزارة سمعنا دوياً هائلاً أمام البيت، أعقبه اطلاق رصاص على صالة الاجتماع، فارتج المسكن وجواره ورأينا حفرة كبيرة في الحديقة وآثار رصاص على حائط الشرفة أمام قاعة اجتماعنا وقد تحطم زجاج بيتنا وبيت جارنا ميشال شيحا.

وعلى الأثر اتصل المفوض السامي بي شخصياً وأوفد المسيو بوشيد مدير الامن العام الفرنسي ليباشر التحقيق، فطفنا معه في البيت وهمس في أذني: «يرديون أن يلصقوا التهمة بالشيخ فريد صديقكم، وعلى الرغم من صداقتي للرئيس إميل إده سأقول للمفوض السامي أن الجريمة ليست مفتعلة بل هي محاول قتل ضدكم وضد أصدقائكم، وخصوصاً أن الرصاص دوى أثناء انفجار القنبلة وصوب إلى محل اجتماعكم، إنما علينا أن نكشف المجرم وخير الدين الأحدب رئيس الوزارة ونور الدين الرفاعي مدير البوليس والفرد ثابت مدعي عام للإستئناف.

ويصف الرئيس صبري حمادة كيف عمل لتحويل الدكتور قزعون من الموالاة إلى المعارضة، بقوله: ليس هذا المهم، بل الأهم بكثير تكليف خير الدين الاحدب بتكيل الوزارة التي اقتصرت، دائماً وأبداً على من انتخبه من النواب»، وكان عدد من الموالين قد عاد إلى ما كان عليه بعودة كميل شمعون إلى حظيرتنا، لم يرق لنا نحن أي المعسكر الثاني خلو الحكومة من أحدنا، فرأيت أن ننتزع منهم الاكثرية ونستميل أحد الذين يعتمدون عليهم، فقصدت من توي ميشال زكور في منزله، أقنعته حجتي فرافقني في زيارة للشيخ بشارة الخوري الذي أقر عدم اقرارنا لخير الدين الاحدب في إقصائنا  المتعمد عن الحقائب الوزارية.

ومن ثم أخذت على عاتقي تحويل نائب موال إلى نائب معارض، فنجحت في مسعاي، وجئت بالدكتور محمد قزعون، ولو اتيح له أني ارجم في الغيب ويعرف ما سيتعرض له من جراء ذلك، لبقي حيث كان، يتربع سعيداً في صفوف الموالين.

يضيف الرئيس حمادة: ما أن علم خير الدين الاحدب بالأمر حتى ارسل من يخطف الدكتور قزعون ويحتجزه في منزل أحد آل حماد الواقع بالقرب من صيدلية حمادة، ولم يقف رأي الوزراء عند هذا الحد، بل كلف آخرين بإلقاء قنابل على منزل الشيخ بشارة الخوري وإطلاق الرصاص علينا فيما نحن مجتمعون في الداخل.

ويتابع: حين تمكنت من  معرفة المكان الذي احتجز فيه الدكتور قزعون اقتحمته، والتعبير هنا صحيح لا مجاز فيه، فالمنزل في الواقع كان مطوقاً برجال خير الدين الاحدب المسلحين، وقد كلف بعضهم بحراسة النائب المحتجز الذي قال لي بأسى حين رآني: ما زلت على وعدي لكني محتجز كما ترى.

ويقول الرئيس حمادة: عدت إلى اقتحام صفوف الحرس مرة ثانية برفقة الدكتور قزعون ولكنه ما كاد يصل إلى منزل حتى عاودوا الكرة وخطفوه مرة ثانية، وعهدوا به إلى أبو زهير جلول، وكان من أخلص رجال رئيس الوزراء، ذهبت أطرق باب ابو زهير دون جدوى فقفزت فوق سور الحديقة وتمكنت بمشقة من العثور على الدكتور قزعون، والحق يقال أنه بالرغم مما تعرض له من خطف وإحتجاز على يد رجال مسلحين لم يمانع في التوقيع على ما طلبت التوقيع عليه.. وقد ادى ذلك التوقيع،وتحولنا من أقلية إلى أكثرية ولو بصوت واحد إلىحل المجلس لاحقاً.

وبأي حال، فقد أسفر هذا الواقع عن قيام حكومة إئتلافية في 14 آذار 1937 برئاسة خير الدين الأحدب الكتلوي وميشال زكور واحمد الحسيني، (دستوريان) وحبيب أبي شهلا (كتلة وطنية) ونالت هذه الحكومة الثقة، لكن العلاقات بين أعضائها ظلت بين مد وجزر، وبهذا لم تعمر هذه الحكومة طويلاً، خصوصاً بعد وفاة ميشال زكور بسكتة قلبية، فعين أميل إده بدلاً منه جورج ثابت المحسوب على الكتلة الوطنية، وصارت هذه الحكومة كلها من لون واحد، خصوصاً بعد أن نجح الرئيس اميل إده بضم الوزير الحسيني إلى الكتلة الوطنية.

وفي شهر تموز انضم النائبان خليل أبي اللمع وإبراهيم حيدر إلى الكتلة الدستورية فتعززت الكتلة الدستورية.. وفي 14 تموز 1937 حل مجلس النواب ودعي الناخبون للإقتراع في مهلة ثلاثة أشهر…

إذا كانت هذه الحادثة محاولة لانقلاب حكومي أو لتغيير الحكومة الكتلوية، إلا أن محاولة الإنقلاب الحقيقية تجلت في محاولة فاشلة للإنقلاب على الإستقلال وعودة الانتداب في العام 1944 حينما حاول الفرنسيون وأنصار الإنتداب إقتحام المجلس النيابي، ورفع العلم الفرنسي.