IMLebanon

عجز الميزان التجاري و«الإنتحار المالي»

 

تُظهر أرقام الإستيراد والتصدير للأشهر الثمانية الأولى من العام 2018 إرتفاعاً بنسبة 8 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام 2017 ما يحمل العجز السنوي إلى 17 مليار دولار أميركي. هذا المُستوى العام لفاتورة الإستيراد مُرتفع جداً مقارنة بالصادرات ما يفرض إعادة النظر بالمعاهدات التجارية والقيام بعدد من الخطوات لمنع تزايد الدين الناتج عن هذا العجز.

 

لا يُعقل أن يعيش بلد فوق قدرته المالية ومع ذلك هذا ما يفعله لبنان! إنه إنتحار مالي يقوم به لبنان من خلال الكمّ الهائل من السلع والبضائع والخدمات التي يستوردها، فأرقام الإستيراد (الجمارك اللبنانية والـ ITC) تُظهر أنّ لبنان يستورد سلعاً وبضائع بقيمة 20 مليار دولار سنوياً (2017).

 

والحال ليس بأفضل في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2018 مع 14 مليار دولار أميركي مقارنة بـ 1.99 مليار دولار أميركي تصدير ما يعني 11 مليار دولار أميركي عجز في الميزان التجاري على ثمانية أشهر فقط من العام 2018 (أو 17 مليار د.أ على 12 شهراً)!

 

هذا العجز هو نتاج ضعف الماكينة الإقتصادية ولكن أيضاً السلوك الإستهلاكي للمواطن اللبناني. وقد أدّى إقرار سلسلة الرتب والرواتب في العام الماضي إلى رفع هذا العجز ما سمح للإقتصادات الأخرى بالإستفادة من هذه السلسلة على حساب الإقتصاد الوطني.

 

النظرية الإقتصادية واضحة على هذا الصعيد: عندما يكون هناك عجز في الميزان التجاري، فهذا يعني أنه يتوجّب على البلد المعني الإقتراض من الدول الأخرى لتغطية إستيراده. وبالتالي هناك إستحالة في الإستمرار على هذا النحو، فما هي الحال إذا كان هذا العجز يوازي 33% من الناتج المحلّي الإجمالي؟ بكل بساطة هذا يعني أنّ على الدولة اللبنانية الإقتراض لسدّ هذا العجز.

 

إذاً نرى أنّ هناك إلزامية للبنان أن يبدّل من هيكلية ميزانه التجاري تحت طائلة الغوص في دين لن يستطيع سدّه في المُستقبل. على هذا الصعيد يُمكن القول إنّ العجز في الميزان التجاري يُسبّب كوارث على الصعيدين الإقتصادي والمالي وحتى النقدي:

 

أولاً – العجز في الميزان التجاري يجعل الماكينة الإقتصادية تفقد الإستثمارات والوظائف وبالتالي وعلى طول الآمد هناك إنجراف إقتصادي (Economic collapse) ناتج عن غياب مقوّمات الإقتصاد (الإستثمار والإستهلاك).

 

ثانياً – الإستيراد يجعل من لبنان بلداً مُتعلّقاً سياسياً وإقتصادياً بالدول الأخرى، وهذا الأمر يصحّ أكثر في حال كان التعلّق بكل ما هو سلع مثل الأكل والمعدّات الصناعية والنفط. وبالتالي هناك خطر على السياسة الخارجية للبنان بتعليق ماكينته الإقتصادية وشعبه على السياسات الخارجية.

 

ثالثاً – المستوى العالي من الإستيراد يفرض رفع الإحتياط من العملات الأجنبية لتجنّب أيّ إنخفاض في قيمة العملة كما وتجنّب إرتفاع التضخّم الذي يؤدّي حكماً إلى رفع الفوائد.

 

رابعاً – الإستيراد الحرّ (حال لبنان) يفرض على الشركات اللبنانية أن تتنافس والشركات الأجنبية وهذا الأمر يعني إقفال الشركات الصغيرة نظراً لعدم قدرتها على المنافسة إن على صعيد الأسعار أو على صعيد الجودة. وبما أنّ 50% من العمالة تأتي من هذه الشركات، فإنّ هذا الأمر يعني فقدان الكثير من الوظائف.

 

خامساً – الإستيراد، وكما سبق الذكر، تفرض على الدوّلة الإقتراض لتغطية الفارق بين إيراداتها الخارجية والإستيراد.

 

لذا نرى أنّ الإستمرار على هذا النحو هو إنتحار مالي وإقتصادي وبالتالي هناك إلزامية لتغيير هيكلية الماكينة الإنتاجية لكي تستطيع تسجيل فائض في الميزان التجاري، أقلّه لسدّ ما راكمناه في السنين الماضية من عجز. ويبقى السؤال عن كيفية القيام بهذا التغيير في الهيكلية الإقتصادية؟

 

هناك عدّة خطوات على الدولة اللبنانية القيام بها سريعاً لتفادي أيّ إنجراف إقتصادي ومالي:

 

أولاً – إعادة فرض رسوم جمركية على كل البضائع التي يستوردها لبنان والتي تُنتج مثيلها الشركات اللبنانية. هذا الأمر سيحمي الشركات اللبنانية ولكن في الوقت نفسه سيسمح للدوّلة بإدخال أموال إلى الخزينة وسيُقلّل حكماً من فاتورة الإستيراد.

 

ثانياً – وضع لائحة بأول 50 مُنتجاً يستوردهم لبنان ومُحاولة تشجيع الشركات لإنتاج هذه السلع أو أقلّه تجميعها (مثلاً السيارات). هذا الأمر يمرّ عبر سياسة ضريبية يُمكن تمويلها من خلال الرسوم على الإستيراد كما وعبر تسهيل إنشاء شركات جديدة ودعم الشركات الموجودة لزيادة تنافسيّتها على الصعيد العالمي. هذا الأمر يجب أن يتواكب بإلزامية توظيف اللبنانيين بنسبة تفوق الـ90%.

 

ثالثاً – وضع خطّة إقتصادية تهدف إلى دعم قطاعي الصناعة والتكنولوجيا الوحيدين القادرين على ضمان ديمومة الوظائف والنموّ الإقتصادي. هذا الأمر يفرض قانوناً لتعاون ثلاثي بين الدولة، الشركات والجامعات من خلال إنشاء مراكز بحثية يكون هدفها خلق الأفكار وتحويلها إلى مُنتج يُمكن تسويقه.

 

رابعاً – وضع خطّة للبدء بتخفيف التعلّق بالنفط وإستبداله بموارد أخرى لإنتاج الطاقة منها الغاز والطاقة المُتجدّدة وغيرها. الجدير ذكره أنّ الإرتفاع في فاتورة الإستيراد في شهر تموز الماضي (2.34 مليار دولار أميركي مقارنة بـ 1.6 مليار دولار أميركي) مردّه إلى الإرتفاع في استيراد الفيول (HS 27.10.19.20).

 

هذا الأمر يُظهر مدى هشاشة تعلّق ميزانية الدوّلة بأسعار النفط العالمية وبالتالي فإنّ أيّ أزمة جيوسياسية بين الدول تنسحب حكماً على عجز الموازنة. من هنا نرى ضرورة الإسراع في وضع خطّة (ولو على الأمد البعيد) لاستبدال النفط بموارد أخرى.

 

خامساً – إطلاق حملة توعية بإتجاه المواطن لحمله على تفضيل السلع والبضائع اللبنانية في مقابل ضمان جودة هذه البضائع عبر وزارة الإقتصاد والتجارة. هذه الحملة تهدف قبل كلِ شيء إلى إظهار أنّ شراء البضائع والسلع اللبنانية تحمي الوظائف والشركات ومالية الدولة وتضمن الرخاء للمواطن والمجتمع اللبناني.

 

أظهرت الأرقام الأخيرة لوزارة المالية (تقرير عن أداء المالية العامّة في الأشهر الستة الأولى من العام 2018) أنّ الإنفاق ارتفع بقيمة 2500 مليار ليرة في الفترة نفسها من العام 2017. كما أنّ الإيرادات إنخفضت في نفس الفترة بقيمة 500 مليار ليرة لبنانية، وهذا الأمر ما هو إلّا دليل هشاشة الهيكلية المالية للدولة اللبنانية (ومن ورائها الهيكلية الإقتصادية) التي تتموّل بشكل شبه رئيسي من خلال الإستدانة (سندات خزينة).

 

هذه المنهجيّة تفتقر إلى الإستدامة بحكم أنّ المصارف تتّجه إلى فرض شروط على الدولة من الآن وصاعداً للقبول بتمويلها. أما الأسواق المالية فستتردّد بشراء السندات إلّا إذا تمّ رفع الفائدة أو القيام بإصلاحات مالية لضمان إستدامة الكيان المالي للدولة اللبنانية.

 

من هذا المُنطلق وفي ظلّ تعذّر تشكيل الحكومة، نُطالب فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء تفعيل عمل حكومة تصريف الأعمال لتنفيذ الخطوات الآنفة الذكر، لأنه فعلاً لم يعد هناك من هامش تحرّك، ومديونيّتنا العامّة أصبحت على مستويات عالية لا يُمكن الإستمرار بها. كما لا يُمكن تناسي أنّ هناك أموالاً أقرّها المُجتمع الدولي على شكّل قروض لمشاريع إستثمارية ضمن مؤتمر سيدر 1 والتي تحتاج إلى إصلاحات في مالية الدولة للإستفادة من هذه الأموال.