IMLebanon

طرابلس: المدينة الموجوعة والمحبطة.. والثائرة

 

من المسؤول عن شيطنتها وإحراق ذاكرتها وتدمير مجالاتها الحيوية؟

 

هل يكفي استنكار وإدانة ما جرى في طرابلس في الخميس الأسود من قتل وتخريب وحرق وتدمير، وما جرى قبله وسيجري بعده في أزمنة البؤس والكيدية والعبثيّة؟

 

هل يكفي إعلان القرف واليأس من المواقف الرسميّة والسياسيّة التي صدرت وتصدر بعد كل جولات العنف اللامتناهية، وباتت مستهجنة إلى حدّ الملل والارتياب والشكّ؟

 

هل يكفي رسم علامات الاستفهام حول تخلّي الأجهزة العسكريّة والأمنية، وقبلهم كلّ الحكومات، عن المدينة وأهلها وتركها فريسة للتخريب والتنكيل بحقد وهمجية وإجرام؟

 

هل يكفي إدانة الخفّة واللامسؤولية والتواطؤ الذي اتسمت به مواقف رسمية يفترض أنها مؤتمنة على البلد والدستور والشعب والمؤسسات، فتفرغت للطعن بالمدينة وأهلها لتحصيل مكاسب سياسيّة رخيصة؟

 

هل من قيمة أصلاً لكل البيانات والتصريحات والتبريرات والوعود والإشادات أمام هَول ما جرى ويجري، وتكرر وسيتكرر في هذه المدينة الصابرة؟

هل يعلم أطراف المنظومة السياسية المستغلّة لجرح طرابلس، أنّ أهلها الذين يخرجون ضدّ الحرمان والتهميش والبطالة، يعرفون مسبقاً علم اليقين أنّ جهات وأجهزةً وسماسرة ومقامرون سيستغلون حزنهم وغضبهم للإمعان في المدينة قتلاً وتنكيلاً ومتاجرة؟

 

ما حصل في الفيحاء، في سوداويته وتخلّي الدولة الفاضح عن مواطنيها والتواطؤ عليهم، يشبه ما جرى في بيروت في 7 أيار المشؤوم

 

هل من إجابة عن سؤال قديم – متجدّد لماذا لم تنل هذه المدينة حصة من الانماء مثلها مثل مدن المحافظات، ولما انهمرت كل عراقيل الدنيا أمام كل محاولة لانتزاعها من واقعها الصعب؟

 

هل تكفي المسارعة للإعلان عن تبني تكاليف الترميم للتعويض عن المدينة في دماء أبنائها واقتصادها وعمرانها، أم أنّ الأزمة أكثر عمقاً وتتصل بغياب الدولة الراعية وغياب الزعامة الحريصة، وتكاثر «القمّامين» الذين يريدون الإفادة من كل شيء؟

 

هل ثمة من يريد الهروب من / أو حرف الأنظار عن التحقيق بجريمة مرفأ بيروت بإشعال طرابلس، ومن المستفيد من ذلك؟ وهل من رابط بين استحضار «داعش» في العراق وشيطنة طرابلس في لبنان لغايات أكبر من الصراع السياسي المحلي في لحظة إقليمية حرجة؟

 

في تلك الليلة الحزينة، لم تحرق مبان حكوميّة وأملاك خاصّة فقط، ما تمّ حرقه هو ذاكرة المدينة وإرثها الحضاري، وقبله هناك ضحايا أبرياء قتلوا بدم بارد، والغريب أن لا بواكي لهم!! ما جرى يشبه في إجرامه وسوداويته وبؤسه، اليوم المشؤوم في 7 أيار 2008، يوم كشفت المليشيات عن وجهها الأسود وتخلت الدولة عن واجباتها، معلنة أنها ليست لجميع مواطنيها.. يومها وقعت الجريمة ثم وزعت الغنائم!!

 

عروس الثورة؟!

 

خلافاً للتقليد المبستر الذي تقدم فيه أزمة طرابلس، وتًحصر غالباً بالاجتماعي – التنموي، وآفاق الحلول… المسألة معقدة، وليست بذات الاستسهال الذي يجري عرضها فيه وفق ثنائية تحميل المسؤوليات أو التنصّل منها، للمسألة وجوه أخرى.

 

قبل سنة ونيّف، وفي ذروة تألق الثورة ضدّ المنظومة المتحّكمة، في أكثر من منطقة لبنانيّة، بدا أن طرابلس وساحتها نالت قدراً من التغزّل والإشادة بـ «وطنيتها» وانفتاحها، لدرجة أثارت الاستغراب، ومصدر هذا الاستغراب أن ما قيل يكاد يستبطن اتهاماً مسبقاً لها في لبنانيتها وانتمائها، ثم جاء ما أطلق عليها عروس الثورة، وبالرغم من استحقاقها لذلك، أثار اللقب مخاوف من أن يكون كل المديح مقدمة لذبحها، على غرار ما حصل مع عروس الثورة السورية، حمص!

 

وفي الاتهام – القالب السابق الذكر، ما يشبه الصوابَ، ذلك أن المدينة رُميت لسنوات ومن دون إرادة أهلها وشبابها وقواها المجتمعيّة، بثقبٍ أسودَ لامتناهي من جدليات عقيمة، وصراعات عبثية، واتهامات مكرّرة، غيّبت مشاركتها الوطنية، وابداعها الفني والثقافي، ومجالها الحيوي والإنمائي والخدماتي، وكلّ ذلك يناقض تاريخها الثريّ جداً، لمصلحة سوداوية مقيتة بدت وكأنها نتاج تحالف حاقد بين طبقة سياسية لا تدين بوجودها في جنة السلطة للشرعية الشعبية من جهة، وتنظيمات ومجموعات وتوليفات تدّعي التدين وتمارس كل يسيء للدين وللوطن وطرابلس من جهة ثانية، وفوق هذا وذاك، أداء سلطوي حاقد على كل ما ومن في هذا الرقعة الجغرافية من لبنان، إذ لا تنمية، ولا استثمارات، ولا مشاريع، ولا زعامة قويّة تدافع عما كان «عاصمة ثانية»!.. كل ذلك أخرج جزءاً من المجتمع الطرابلسي عن سكينته المعهودة، وحيويته الفاعلة، ومنظومة قيمه المستقرّة، لمصلحة صورةٍ جرى تنميطها برعونةٍ وعبثية.

 

صحيح أن الذين تورّطوا بجرائم الحرق والتدمير والتخريب قلّة مندسّة أو متعاملة عند مشغّل حاقد، لكن الصحيح أكثر أن غالبية من خرج معلياً صوته يريد إسماع المنظومة الحاكمة وجعه وحزنه وغضبه، ويريد التعبير عن رفضه التمادي في الظلم والاتهام والتهميش.. وعلى السلطة بكل رموزها ومؤسساتها، شاءت أم أبت، أن تسمع وتصغي، إذ لا يجوز بأي معيار أن تتمكن الأجهزة الأمنية من معرفة ما بداخل هواتف شبان المدينة من صور وأغاني، ولا تستطيع معرفة شبكات ومجموعات تخطّط لتدميرها؟

 

مدينة متروكة لقدرها

 

قبل خمس سنوات، أصدرت منظمة الاسكوا تقريراً «صادما»، بشفافيته وواقعيته، يرصد الواقع الطرابلسي، حمل عنوان «الفقر في طرابلس»، وفيه أن «57 في المائة من أهل المدينة يعاني من الفقر والحرمان، ومنهم 26 في المائة يعيشون في فقر مدقع، ويصنفون في خانة الأشدّ حرماناً، و77 في المائة متعثرون اقتصادياً، و35 في المائة يعانون مشاكل صحيّة، ومثلهم يقطنون في مساكن غير لائقة، و25 في المائة محرومون من التعليم». للتذكير، هذه الأرقام في سنة 2015، ولكلّ مخيلة أن تتصوّر كيف هي اليوم وقد بات البلد كله أسير البؤس والحرمان والإفلاس والجائحة وسط انهيار اقتصادي وطني؟!

 

لا شكّ أن الدولة بأجهزتها ومؤسساتها وحكوماتها ومسؤوليها مقصّرة ومتواطئة، لكن جزءاً مهماً من المسؤولية في مكان آخر، في بلد تعوّد اللجوء لسياسات الـ «بدائل»، وهنا التحدي.

 

ما جرى في طرابلس في 28 كانون الثاني 2021، لا يُقارب، توصيفاً وتحليلاً وإدانة، بكلمات وتصريحات ومقالات. يستوجب، ربما، صفحات بيضاء تسمحُ للمخيلات أن تدين وتنتقم وتعلي صراخها وشكواها بحسب ما تراه من زوايا للجريمة المتمادية، وعلى أهل طرابلس أن يعرفوا أن التاريخ يصنع، وأحياناً يُستعاد، وأن البؤس ليس قدراً… وفي ذلك تبريد للقلوب.