IMLebanon

المحاسبة والثقة

 

نعيش اليوم وسط أزمة غير محدودة الآفاق، حتى لو تمّ التوصّل إلى تشكيل حكومة. وقوام هذه الأزمة غياب مسألتين جوهريّتين هما: الثقة والمحاسبة. لا نستطيع تكوين سلطة من دون أيّ محاسبة، ولا يستمرّ أيّ حكم في أيّ بلد من بلدان العالم من دون ثقة أهله وناسه به. ولو كان ذلك تحت مظلّة الديموقراطيّة والحرّيّة الشخصيّة الكيانيّة.

 

لقد سلّم اللّبنانيّون زمام الحكم بعد الحرب لأبرز وجوهها، فقام من شارك بهذه الفترة من الحكم بنقل الأداء الميليشيوي أينما وجدوا. والمعلوم أنّ الميليشيات كلّها لم تكن تعتمد المحاسبة القانونيّة، بل كانت تشهد انتفاضات وانتفاضات مضادة؛ وهذه مسألة بديهيّة لأنّها لم تكن أحزاباً سياسيّة. بغضّ النّظر عن أنّ قلّة من هذه الميليشيات حاولت أن ترتقي في تنظيمها وفكرها نحو العمل السياسي، لكن الأحداث على أرض الواقع كانت دائماً تسبقها.

 

من هذا المنطلق، غابت المحاسبة القانونيّة والدّستوريّة في زمن هذه السّلطة. والمعادلة التي حكمت تلك الفترة كانت بسيطة جداً؛ إمّا التّعامل مع الواقع وإمّا العمالة. وتابعت هذه السلطة بنهجها الاقصائي حيث نقلت نظريّة عدم المحاسبة إلى المؤسّسات الدّستوريّة؛ وتحت ذريعة الدّيموقراطيّة التّوافقيّة تمّ تشكيل حكومات الوحدة الوطنيّة السياسيّة، وتشكّلت من القوى السياسيّة التي دخلت البرلمان، فصار المحاسَب هو نفسه المحاسِب. فالمفروض أن تحاسب السلطة التشريعيّة السلطة التنفيذيّة، وهذا ما بات متعذّراً حيث ما من أحد يحاسب نفسه بنفسه.

 

وبغياب المحاسبة الدّستوريّة وبتطبيق المحاسبة الشخصيّة مكانها، تمّت السيطرة على مقدّرات الدّولة تحت ذريعة المحاصصة. بذلك، تمّ إشراك الطّغمة الكبرى بالحكم عن طريق هذه الآفة، فصار السّكوت عن جرم الفساد والسّرقة متبادَلاً بين أطراف الحكم على قاعدة: “أسكت عنّي فأسكت عنك”. وهذا ما كان طيلة العقود الثلاثة التي تلت اتّفاق الطّائف، أي في زمن الجمهوريّة الثانية. وصارت للفساد ثقافة على قاعدة “الشطارة”، ومن المؤكّد أنّ مبدأ “كلّن يعني كلّن” لا ينطبق على السياسيّين كلّهم الذين شاركوا في الحكم. فلو خلت الدّنيا من الأوادم لخربت. ونتيجة هذا الفساد الذي نهش الهيكل، نتجت حالة عدم ثقة بالطّقم السياسي بأكمله. فنتجت نقمة جماهيريّة تفجّرت في الشارع بثورة 17 تشرين، ثورة اجتماعيّة شعبيّة. ولعودة الثّقة نحن بحاجة إلى تفعيل منظومة المحاسبة. وبعد إدراك الشّعب لهذه الحقيقة أخذ على عاتقه مبدأ المحاسبة في الشارع. وهذه ثقافة سياسيّة اجتماعيّة لم تألفْها الحياة السياسيّة في لبنان، سوى في مراحل معروفة، وليس على القاعدة نفسها التي تمّت اليوم.

 

من هنا، لاستعادة الدّولة من حضن الفساد، نحن بحاجة إلى تفعيل هاتين المسألتين: الثقة والمحاسبة. وهما مرتبطتان بعضهما ببعض ارتباطًا جوهريّاً. بذلك فقط نستطيع بناء دولة سيّدة حرّة ديموقراطيّة، للتفرّغ بعدها إلى معالجة المشاكل السياسيّة الاستراتيجيّة التي شكّلت عموداً فقريّاً لغياب المحاسبة والثقة.