اصطدم الكيان الصهيوني بجميع الأمناء العامين للأمم المتحدة، وتصدّى لهم بمنتهى الطرق والوسائل، مُستعيناً بحلفائه الغربيين الأعضاء في مجلس الأمن، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.
قال الأمين العام للأمم المتحدة البرتغالي أنطونيو غوتيريش António Guterres في كلمته أمام مجلس الأمن بتاريخ 25/10/2023: «من المهم أن ندرك أن هجوم حماس لم يحدث من فراغ. يعيش سكان فلسطين تحت الاحتلال الخانق منذ 56 عاماً. لقد رأوا أراضيهم تمتلئ بالمستوطنات بشكل مطرد، وتعرضوا للعنف، وخنق الاقتصاد، ونزوح الناس، وهُدمت المنازل. وآمالهم في التوصل إلى تسوية سياسية للحالة الصعبة تتلاشى أمام أعينهم. ولكن استياء الشعب الفلسطيني لا يُمكن أن يُبرر الهجوم المروّع لحماس، والهجوم المروّع لحماس لا يُمكن أن يُبرر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني».
على الرغم من أن هذا التصريح ليس الأول من نوعه، شنّت إسرائيل هجوماً شرساً على غوتيريش على لسان وزير خارجيتها إيلي كوهين ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، وطالبته بالاعتذار والاستقالة من منصبه، وأعلنت تل أبيب أنها ستحرم مسؤولي الأمم المتحدة من تأشيرات الدخول إليها، ما يعني عملياً زيادة عزلة أهالي غزة وحرمانهم من تلقّي المساعدات الإنسانية من الأمم المتحدة.
تحدث الأمين العام للأمم المتحدة السابق الكوري بان كي مون Ban Ki-moon (2007 – 2016) أثناء ولايته عن المظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون، وصرّح بأنه «بعد قرابة خمسين سنة من الاحتلال وعقود من اتفاقات أوسلو، يفقد الفلسطينيون ولا سيما الشباب الفلسطينيون الأمل»، وإن «إحباط الفلسطينيين يتزايد تحت وطأة نصف قرن من الاحتلال وشلل عملية السلام»، مضيفاً «كما أثبتت الشعوب المضطهدة لعدة قرون، من الطبيعة البشرية أن تتفاعل مع الاحتلال، الذي غالباً ما يكون بمثابة حاضنة قوية للكراهية والتطرف».
وسارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لاتهام بان كي مون «بتشجيع الإرهاب» وأنه «لا يوجد عذر للإرهاب».
دخل الأمين العام الأسبق الغاني كوفي عنان Kofi Annan (1997 – 2006) في مناوشة مع إسرائيل، حين نُشرت رسالة سرية مؤرخة في 12/3/2002 موجهة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت أرييل شارون، اتهمت تلك الرسالة السرية حكومة شارون أثناء محاولتها إخماد ما يُعرف بالانتفاضة الفلسطينية الثانية «بإساءة استخدام القوة، ما أدّى إلى مقتل مئات الأبرياء وتدمير العديد من المنازل والمباني».
اتهمت إسرائيل حينها الأمم المتحدة بأنها تصرفت بطريقة غير دبلوماسية بنشرها للرسالة السرية، وانتقدت بشدّة الأمين العام.
الأمين العام الأسبق المصري بطرس بطرس غالي (1992 – 1996) هو الأمين العام الوحيد للأمم المتحدة الذي عارضت الولايات المتحدة التمديد له لولاية ثانية بالرغم عن موافقة 14 دولة على ذلك من دول مجلس الأمن الـ15.
غالي كان لديه اعتقاداً أنه جرى إبعاده بسبب انتقاده لممارسات إسرائيل، حليف واشنطن الأبرز في الشرق الأوسط، فيما يتعلق بتصريحاته عام 1966 حول قصف مركز قيادة فيجي التابع لقوات اليونيفيل في قرية قانا في جنوب لبنان بعد لجوء المدنيين إليه هرباً من عملية عناقيد الغضب التي شنّتها إسرائيل على لبنان، مما أدّى إلى استشهاد 106 من المدنيين وإصابة الكثير بجروح.
كان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة من البيرو خافيير بيريز دي كوييار Javier Perez de Cuellar (1982 – 1991) قد عمل جاهداً على إنجاح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 43/176 المؤرخ 15/11/1988 بخصوص عقد مؤتمر دولي للسلم بشأن الشرق الأوسط، تحت رعاية الأمم المتحدة: انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس، ومن الأراضي العربية المحتلة الأخرى، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية، وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة، وغيرها من النقاط. وفي الجلسة نفسها، اعتُمد القرار 43/177، الذي اعتُرف فيه بإعلان دولة فلسطين.
وقد استاءت إسرائيل من الأمين العام، وعارضت والولايات المتحدة القرارين، وأصرّت على المفاوضات الثنائية بدلًا من ذلك.
الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة النمساوي كورت فالدهايم Kurt Waldheim (1972 -1981) قال ذات مرة: «إنّ أوروبا تريد فعلاً حلاً للقضية الفلسطينية يقوم على دولتين»، وقد بدأ العمل بجدّية من أجل حشد التأييد لهذا الحل، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يصطدم موقفه مع إسرائيل التي استطاعت جمعَ أكثر من فيتو من الدول الخمس دائمة العضوية لمنعه من إعادة انتخابه لمنصب الأمين العام.
كذلك استاءت إسرائيل من القرار 35-122 الصادر بتاريخ 11/12/1980 الذي يُدين إسرائيل لفرضها تشريعاً ينطوي على إحداث تغييرات في طابع ومركز الجولان، والقرار 35-207 الصادر بتاريخ 16/12/1980 الذي يُجدد الرفض الشديد لقرار إسرائيل ضم الجولان والقدس، والقرار 36-147 الصادر بتاريخ 16/12/1980 الذي أدان إسرائيل لمحاولاتها فرض الجنسية الإسرائيلية بصورة قسرية على المواطنين السوريين في الجولان.
لم يتأثر فالدهايم بما حدث، وقام بترشيح نفسه لمنصب مستشار النمسا، ففقدت إسرائيل صوابها وبدأت حملة عالمية عليه بتهمة الانتماء في شبابه إلى الشبيبة النازية لهتلر، وحاولت تدمير سيرته السياسية.
علاقة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة من ميانمار يو ثانت U Thant (1961 – 1971) بإسرائيل تميّزت بالمرارة، وقد أحسّ بخيبة مساعيه في إقناع إسرائيل بقبول أقل قدر ممكن من القواعد التي تحكم سلوك أعضاء المجتمع الدولي، وانفض اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/7/1967 بعد أن أحالت الموضوع برمّته إلى مجلس الأمن، وكان ذلك دليلاً على عجز ليس له مثيل من قبل.
كان المسؤولون الإسرائيليون لا يرتاحون إلى الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة السويدي داغ همرشولد Dag Hammarskjöld (1953 – 1961)، وأثناء توليها منصب وزيرة الخارجية، أقامت جولدا مائير في فيلا (تمّ الاستيلاء عليها) نُحتت على مدخلها لوحة حجرية حُفرَ عليها اسم صاحب الفيلا الفلسطيني المسيحي (حنا بشارات) باللغتين العربية والإنجليزية.
وعندما عرفت أن همرشولد سيزورها كوزيرة للخارجية في مقر سكنها، أصدرت تعليماتها بإزالة اللوحة على مدخل الفيلا.
بعد اندلاع حرب 1958 في لبنان أخذت إسرائيل تضغط في أروقة الأمم المتحدة لنشر قوات دولية في البقاع وبين سوريا ولبنان، إلّا أنّ همرشولد تصدّى لهذه الضغوط ورفض نشر قوات على حدود لبنان مؤكداً أنّ لبنان لم يطلب مطلقاً مثل هذه القوات، وأنّه حتى لو طلب فتحضيرها وكلفتها يمنعان التنفيذ، إذ على هذه القوة أن تكون 25 ألف جندي على الأقل. وتعرض همرشولد لحملة تنديد من إسرائيل وحلفائها.
في عهد الأمين العام الأسبق النرويجي تريغف هالفدان لي Trygve Halvdan Lie (1946 – 1952) تمّ إقرار قرار تقسيم فلسطين رقم 181 بتاريخ 29/11/1947 ويتبنّى خطة تقسيم فلسطين القاضية بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة: دولة عربية، ودولة يهودية، والقدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية.
أثار القرار غلاة الحركة الصهيونية ضد الأمم المتحدة وأمينها العام، وفي بث راديو في 30/11/1947، صرّح مناحيم بيغن، الذي كان في ذلك الحين أحد زعماء المعارضة في الحركة الصهيونية، عن بطلان شرعية التقسيم، وأن كل أرض الميعاد والتي تشمل كامل فلسطين الانتدابية (بما في ذلك شرق الأردن) ملك لليهود وستبقى كذلك إلى الأبد.
وسيط الأمم المتحدة في حرب فلسطين عام 1948 السويدي الكونت فولك برنادوت Folke Bernadotte قدّم وقتها خطة في 27/6/1948 تتضمن 12 اقتراحاً ومن بينها: «يحق لسكان فلسطين إذا غادروها بسبب الظروف المترتبة على النزاع القائم العودة إلى بلادهم دون قيد، واسترجاع ممتلكاتهم، ووضع الهجرة اليهودية تحت تنظيم دولي حتى لا تتسبب في زيادة المخاوف العربية، وكذلك بقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية مع منح الطائفة اليهودية في القدس استقلالًا ذاتياً في إدارة شؤونها الدينية، إضافة بعض التعديلات الحدودية بين العرب واليهود، منها ضمّ النقب إلى الحدود العربية والجليل إلى الدولة الإسرائيلية».
هذه الخطة لم تعجب عصابات الهاغاناه وأرغون الصهيونية، فأقدمت على اغتيال برنادوت في 17/9/1948 في القدس.
هذا تاريخ إسرائيل مع الأمم المتحدة، حافل بعدم الانصياع للقرارات الدولية، والكيد والتصدّي لمسؤولي الأمم المتحدة ومنظماتها، وصولاً إلى القتل!