IMLebanon

أميركا…ما لَها وما عليها

 

مَشاهد الفوضى في مطار كابول التي انتشرت في الأيام الأولى من الإنسحاب الأميركي من أفغانستان، والتعليقات التي رافقتها واصفة الولايات المتحدة بالدولة التي لا يمكن الإعتماد عليها، أو التحالف معها، وغير الجديرة بالثقة، وترويج الأخبار أنّ ثواراً بأسلحة قديمة تمكنوا من هزيمة أقوى جيش في العالم مع ما يملكه من وسائل تكنولوجية حديثة للغاية، يُضاف اليها التفجير الذي حصل في محيط مطار كابول ومقتل عدد غير قليل من عناصر الجيش الأميركي والمدنيين، كل ذلك أعطى صورة سلبية عن الولايات المتحدة، وبدأت الشكوك الجدّية تنتشر بسرعة حول قدرتها على القيام بدور قيادي في العالم.

مع أنّ قرار الإنسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان تمّ التوافق عليه بين حركة طالبان وإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في الإتفاق الموقّع بينهما في شهر شباط 2020، إلّا أنّ طريقة تنفيذ هذا الإتفاق من قِبل الرئيس الحالي جو بايدن لم تكن منظمة إطلاقاً، إذ لا يمكن تجاهل مشهد المواطنين الأفغان وهم يتعلقون بالطائرات الأميركية المغادرة، وبعضهم يهبط الى الأرض مفارقاً الحياة، علماً أنّ سوء تنظيم الإجلاء أدّى الى تراجع في نسبة التأييد الشعبي للرئيس بايدن، كما ألقى شكوكاً حول قدرته على القيادة، خصوصاً بعد التناقضات التي رافقت بعض تصريحاته.

ad

 

لقد حاول الرئيس بايدن تحسين صورة الولايات المتحدة وصورته الشخصية عبر ظهوره يومياً على شاشات التلفزة، للتأكيد أنّ إدارته ستقوم بإجلاء جميع الأميركيين الذين يريدون مغادرة البلد والمواطنين الأفغان الذين ساعدوا الجيش الأميركي، مثل المترجمين والموظفين الذين عملوا مع الجيش أو السفارة الأميركية، ويبدو أنّ عملية الإجلاء كانت تحسنت كثيراً بعد التخبّط الذي شاهدناه في البداية، خصوصاً بعد لقاء رئيس جهاز الإستخبارات الأميركية وليم بيرنز مع قائد حركة طالبان عبد الغني برادار، لحثه على تسهيل وصول المغادرين الى مطار كابول، إلّا أنّ التفجير الذي حصل عند مدخل المطار من شأنه أن يعرقل ويعيق الإجلاء.

 

لقد تراوحت تعليقات المنتقدين للولايات المتحدة على سوء إدارتها لعملية الإنسحاب من أفغانستان من السخرية، الى الشماتة، وصولاً الى اعتبار انّ أميركا دخلت عصر الإنحطاط!

 

صحيح أنّ الولايات المتحدة ليست دولة مثالية، فهي تشكو من عيوب كثيرة سواء في سياساتها الداخلية، أو في سياستها الخارجية، ولكن هذا لا يعني إطلاقاً انّها دولة مارقة، أو هي في طور الإنحطاط كما يروّج البعض على خلفية ما حصل في أفغانستان، أو أنّها الشيطان الأكبر وفق ما تقوله إيران فيها. وخير دليل على ما تشكّله هذه الدولة من جاذب لمعظم الشعوب، هو طوابير المنتظرين على أبواب السفارات الأميركية للحصول على تأشيرة دخول أو بطاقة إقامة أو تأشيرة هجرة.

ad

 

أولاً: أبرز السلبيات في النظام الأميركي:

– على الصعيد الداخلي، لا شك أنّ النظام السياسي الديمقراطي المتطور جداً، والذي تحدّد طرق تطبيقه الإنتخابات الدورية على مختلف المستويات، من بلدية وتشريعية ورئاسية وحتى قضائية، يشوبه خلل هام، هو العنصر المالي الذي يلعب دوراً أساسياً في الحملات الإنتخابية، بحيث أنّ المرشح لأي منصب يبدأ حملته بجمع التبرعات لتغطية نفقات الحملة من إعلانات تلفزيونية دعائية، وزيارات الى الناخبين، وندوات انتخابية، وغير ذلك من النفقات، علماً انّ التبرع للحملات الإنتخابية عملية علنية ومنظمة قانونياً، والمرشح الذي يستطيع تجميع أكبر قدر من التبرعات له حظوظ أكثر من سواه للفوز. فعنصر المال، أكثر من أي اعتبار آخر، قد يحدّد نتيجة الإنتخابات، بحيث أنّ الفائز ليس بالضرورة أفضل المرشحين من حيث برنامجه وأفكاره، بل هو في أحيان كثيرة من يستطيع جمع الأموال.

 

من جهة ثانية، إنّ نظام الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) يجعل أنّ الحزب الذي يسيطر على الأكثرية في الكونغرس يحاول إعادة تقسيم الدوائر الإنتخابية، سعياً الى جمع المناطق التي فيها أكثرية من المؤيّدين له لتأمين فوزه في الإنتخابات اللاحقة.

وبما أنّ الحزب الجمهوري هو بصورة عامة مدعوم من كبار الأغنياء، فيما الحزب الديمقراطي يعتمد الى حد كبيرعلى أصوات الطبقة العاملة والأفارقة-الأميركيين، فإنّ الولايات التي يحكمها جمهوريون، مثل تكساس وفلوريدا وغيرهما، تحاول وضع عراقيل قانونية أمام الناخبين، مثل إبراز مستندات معينة قد لا يملكها الناخبون أو يصعب عليهم استحصالها، وتخلق عراقيل أخرى عن طريق تقليل عدد صناديق الإقتراع ووضعها في مناطق بعيدة من بعضها البعض نسبياً، ما يجعل وصول أصحاب الدخل المحدود اليها أمراً صعباً إن كانوا لا يملكون سيارات، كما أنّها تمنع التصويت بواسطة البريد، بينما معظم الولايات الأخرى تسمح بذلك.

ad

 

تعاني كذلك الولايات المتحدة من مشاكل اجتماعية تعود الى التمييز العنصري، خصوصاً تجاه المواطنين من أصول أفريقية. معروف أنّ المجتمع الأميركي مؤلف من مواطنين من خلفيات عرقية ودينية مختلفة، ومع أنّ القوانين تمنع بصراحة تامة أي شكل من أشكال التمييز، إلّا أنّ مظاهر التمييز العنصري ما زالت موجودة في المجتمع، وإن بشكل مكتوم الى حدّ ما، وذلك يؤدي أحياناً الى أحداث ومشاكل تأخذ في بعض الأوقات منحى عنفياً يؤدي الى خسائر في الأرواح والممتلكات.

 

هذه بعض العيوب التي يشكو منها النظام السياسي الأميركي على الصعيد الداخلي.

– على الصعيد الخارجي، شوائب السياسة الأميركية عديدة وشبه دائمة، ما تؤدي الى انتقادات مشروعة للولايات المتحدة نذكر هنا أهمها:

إنّ التأييد الأميركي الأعمى لإسرائيل، بالرغم مما تقوم به هذه الأخيرة من إحتلال وقمع وظلم بحق الفلسطينيين الذين هم أصحاب الأرض الأصليين، أمر غير مقبول، وبعض ذلك عائد الى النظام الإنتخابي الذي يلعب فيه المال دوراً هاماً جداً، حيث يتبرع اليهود الأميركيون بسخاء للمرشحين الذين يؤيّدون إسرائيل، ولذلك أيضاً نرى التمثيل اليهودي في الكونغرس يناهز 6% من الأعضاء، بينما نسبة اليهود الأميركيين لا تتجاوز 2,5% من مجموع السكان، في حين أنّ العرب الاميركيين الذين يشكّلون حوالى 4% من مجموع السكان لا تصل نسبة تمثيلهم في الكونغرس الى 0,5% من الأعضاء.

ad

 

كذلك ارتكبت الولايات المتحدة أخطاء جسيمة في حروبها وتدخّلاتها العسكرية والإستخبارية في دول عديدة مثل فييتنام وكوبا والتشيلي وسوريا ولبنان وأفغانستان وغيرها، وقد باءت جميعها بفشل واضح وخسائر جسيمة في الأرواح والأموال. وليس هنالك ما يدل الى أنّ مثل هذه الأخطاء لن تتكرّر في المستقبل. إذ أنّ الولايات المتحدة تستمر في السعي الى لعب دور قيادي في الشؤون الدولية، مع ما يرافق ذلك من مخاطر وصعوبات.

هل هذه السلبيات في السياسة الداخلية والخارجية الأميركية تجعل الولايات المتحدة دولة في طريق الإنحطاط كما يروج أو يتمنى البعض، أم أنّ هنالك إيجابيات تفسّر التهافت على القدوم الى الولايات المتحدة والإقامة فيها؟

 

ثانياً: الإيجابيات في الولايات المتحدة

– الحريات العامة: من الأمور الأساسية في الحياة الأميركية احترام الحقوق الفردية والحرّيات العامة، بما في ذلك حرّية المعتقد وحرّية التعبير. أي أنّ الإنسان يمكنه ممارسة معتقداته والتعبير عن آرائه بحرّية تامة ودون أية قيود، وهذه الحرّيات يضمنها الدستور بوضوح تام ولا جدال حولها. وأهم هذه الحقوق، بالإضافة الى حرّية التعبير عن الرأي وحرّية المعتقد، الحق في محافظة الفرد على خصوصيته، والحق في عدم الإدلاء بأي تصريح أثناء الإستجواب من قِبل الشرطة، والحق في الحصول على محاكمة عادلة، والحق في الزواج، والحق في التصويت في الإنتخابات. هذه الحقوق تُعتبر شبه مقدّسة في الولايات المتحدة.

ad

– حقوق المرأة: يمنع القانون الأميركي التمييز بين الرجل والمرأة في جميع مرافق الحياة المهنية، سواء على صعيد الدولة أو في القطاع الخاص. أي انّه لا يجوز التمييز عند اختيار الموظفين في المؤسسات العامة والخاصة على أساس الجنس. والمرأة حصلت على حقها في التصويت بموجب التعديل التاسع عشر للدستور سنة 1920، بينما لم تحصل المرأة على حق التصويت في سويسرا حتى سنة 1971. والإنتخابات العامة في الولايات المتحدة لا تشهد تمييزًا بين المرشحين لأي مركز على أساس الجنس. ونجد الآن أنّ ربع أعضاء الكونغرس الأميركي هم من النساء، هذا مع العلم انّ مجلس النواب التابع للكونغرس يرأسه إمرأة، وهنالك أعداد كبيرة من النساء في مراكز رفيعة جداً في القطاعين العام والخاص، بما فيها منصب نائب الرئيس.

– نوعية الحياة: معروف أنّ الحياة في الولايات المتحدة مستواها مرتفع جداً إذا ما قورن بمعظم دول العالم، وذلك ليس من حيث نسبة الدخل الفردي فحسب، بل أيضاً من حيث التسهيلات في الحياة اليومية، وفي المحافظة على البيئة، ومستوى التعليم. كما أنّ هنالك “حرّية اجتماعية”، بحيث يستطيع الفرد أن يفعل ما يشاء طالما لا يخالف القانون. فإذا تعب لا يتردّد في الجلوس على حافة الرصيف إن لم يجد مقعداً يجلس عليه ليستريح، دون أن ينظر اليه أحد بتعجب أو اشمئزاز، ولا يهتم كثيراً بالمظاهر الخارجية لإرضاء الناس مثل الهندام أو نوع السيارة التي يقتنيها. أي أنّ الإنسان الذي يعيش في الولايات المتحدة محرّر من هذه القيود الإجتماعية التي نراها في مجتمعاتنا العربية ومجتمعات أخرى.

ad

– التنوع السكاني: الشعب الأميركي متنوع الأصول والعروق والأديان، ومن هذا المنطلق توجد في الولايات المتحدة مدارس وجمعيات ومقاه ومطاعم وأندية من جميع الجنسيات تقريباً، إذ لا يشعر القادم بالغربة كونه سيجد مواطنين من بلاده أو عرقه أو دينه، كما أنّه غير مضطر منذ وصوله الى تغيير عاداته وطرق حياته. هذا مع العلم أنّ المجتمع الأميركي بطبيعته يشجع القادمين على التأقلم والإنصهار دون صعوبة ودون التخلّي عن تقاليدهم، وذلك بعكس المجتمع الكندي الذي يركّز على التعددية الثقافية، مما يشجع القادمين الجدد الى كندا على العيش في ما بينهم، وهذا ما يؤدي بالنتيجة الى وجود أحياء من جنسيات معينة مثل الحي الهندي أو الصومالي أو الصيني الخ..، ويؤخّر عملية الإنصهار.

– العمل الخيري: يوجد في الولايات المتحدة حوالى مليون ونصف المليون من الجمعيات التي لا تبغي الربح، منها 75% جمعيات خيرية تقدّم شتى أنواع المساعدات المادية والخدمات المتنوعة. والأميركي معروف بعطائه لهذه المؤسسات، كما أنّ القوانين المحلية تساعد في التبرع، إذ أنّ قيمة التبرعات تُحسم من مجموع الدخل، ولا تخضع بالتالي للضريبة على الدخل. على سبيل المثال، عندما بدأ إجلاء الأميركيين وآلاف المواطنين الأفغان من أفغانستان الى الولايات المتحدة منذ أيام، نشطت جمعيات خيرية وكنائس ودور عبادة مختلفة سعياً الى تأمين أمكنة لاستقبال الذين ليس لديهم مكان للإقامة، وإعداد وجبات الطعام، وغير ذلك من ضرورات الحياة، بانتظار أن يتمكن اللاجئون من تأمين وسائل الحياة لأنفسهم.

ما ذكرناه أعلاه هو بعض المعطيات الأساسية السلبية والإيجابية في الحياة السياسية والإجتماعية الأميركية. ويبدو من هذا السرد الموضوعي أنّ المجتمع الأميركي يختلف اختلافاً تاماً عن السياسة الخارجية لهذا البلد. إذ أنّ المواطن الأميركي، خصوصاً في المناطق الريفية، لا يبدي اهتماماً كبيراً بما يحصل في دول أخرى، إلّا في حال كان هنالك تدخل أميركي مباشر مثل فييتنام وأفغانستان، وغالباً ما يبني قناعته الإنتخابية على أساس أمور داخلية بحتة مثل الإقتصاد ونسبة البطالة والتعليم. والحياة اليومية في الولايات المتحدة سهلة جداً ومريحة، وفرص النجاح لمن عندهم الكفاءة بمن فيهم المهاجرون متوفرة، وفي ذلك ربما ما يفسّر الرغبة القوية حول العالم للقدوم الى الولايات المتحدة والإقامة فيها، بالرغم مما نشهده من تعثرات وأخطاء وفشل متكرّر في السياسة الخارجية لهذا البلد.