IMLebanon

صندوق الفُرجَة!

صار البلد أشبَه بـ»صندوق الفرجة»، فيه كلُّ شيء؛ رسومٌ متحرّكة تتوالى على أرض رخوة، وغير ثابتة في مكان، أقوالٌ بلا أفعال، تقلّباتٌ وتناقضات عجيبة غريبة في السياسة وضواحيها، بحيث يكاد لا يخلو يوم من «صرعة جديدة». وعلى كثرتها لم يعُد في الإمكان إحصاؤها، ولا فهمُ أبعادِها، ولا اللحاقُ بها، ولا استيعابُ تقلّباتِها.

«صرعات» متتالية تُعبّر عن «كوميديا سوداء» يُقال فيها «الشيءُ وعكسُه» في وقتٍ واحد، وحتى من فمٍ واحد، والنماذج أكثر من أن تُحصى:

• عهدٌ قدَّم نفسَه إصلاحياً وتغييرياً وإنمائياً وما إلى ذلك من صفات إنقاذية للوضع الداخلي، ونزلَ بقوّته كلّها ليشكّل قوّةَ دفعٍ على جبهة الإنجاز والتنشيط والتفعيل. والنتيجة شللٌ وجمود ولا ترجمة لهذه العناوين، وبدل الإنتاج الموعود يأتي التبرير بأنّ الإصلاح لا يتمّ بسبعة أشهر، كما يأتي الاتّهام لـ»العائلة» و»المقرّبين جداً» باللاشفافية وأكثر من ذلك.

• حكومةٌ قدمت على أنّها خشبة الخلاص والمعبَر الآمن لاستعادة الثقة متّكئةً على خريطة طريق رسَمها «خطاب القسَم» و»البيان الوزاري». وأمّا في الأداء والممارسة فتحبسُ نفسَها في التخبّطِ والإرباك، وتقفز فوق كلّ الشعارات والعناوين الإصلاحية نحو إعادة إحياء منطق المحاصصة والمحسوبيات والصفقات وتقاسُم الاستثمارات في القطاعات الخدماتية «المدهنة»، والحبل على جرّار الهاتف وأليافِه، والكهرباء العالقة عند مثلّث انهيارها في البر، ومحاولة استجرارها الملتبس عبر البواخر من البحر، والمحاولة المستجدّة لإنتاجها من الجوّ عبر الرياح، من دون أن يُعلم ما إذا كانت هذه الرياح تنطوي على عواصف ماليّة، مع أنّ الوزير المعنيّ قال برفضِ الأرقام العالية في المناقصات المتّصلة بها.

• «جلّادٌ سياسي» لوَّح من موقعه العالي بالمحاسبة والمساءَلة، ومع ذلك؛ إلى جانبه، وأمام عينيه إدارةٌ فالتة، وفوضى، وفسادٌ لا نظيرَ له، ورشاوى «على مدّ عينك والنظر»، وليس من يُحاسَب أو يُساءَل!

• قانونٌ انتخابيّ جديد قُدِّم كإنجاز للبلد، ولكنّه مُحاط بتشكيك وبمنطق ينعى من الآن الانتخابات النيابية المقرّر أن تجريَ على أساسه في ربيع العام المقبل، أمّا علامَ يُبنى هذا النعيُ، فلا جواب؟

• مسؤولون يتبارَون في المزايدة على بعضهم البعض في أيِّهم الأحرصُ من الآخر على الدستور والالتزام بنصوصه، وفي الممارسة يُبلَع هذا الحرصُ، وها هي الانتخابات النيابية الفرعية المنصوص عليها في الدستور («المادة 41» التي توجِب ملءَ المقعد النيابي الشاغر قبل أكثر من ستة أشهر من انتهاء ولاية المجلس النيابي)، ما زال البعض يعلّقها برغم أنّها واجبةُ كون الولايةِ المجلسية تنتهي بعد أكثر من عشرة أشهر، ويُلقي بالنص الدستوري جانباً لا لشيءٍ إلّا لأنّ طرفاً سياسياً فاعلاً لا يريد أن يدخل في اختبار الشعبية من الآن سواءٌ في طرابلس أو كسروان.

• قوى سياسية تبدو وكأنّ إبرةَ بوصلتها معطّلةٌ وفاقدةُ الاتجاهات، تراها في يوم تلبسُ موقفاً معيّناً لكنّها ما تلبث أن تخلعَه في اليوم التالي وتلبسُ موقفاً جديداً بلون جديد. والمثال ما جرى مؤخّراً في الحملة على الجيش؛ سياسيّون ونوّاب من لون معيّن قادوا على مدى أيام حملة تحريضٍ وشحنٍ تُحاكي الخطابَ الشعبوي وغزائزَ الشحنِ الطائفي والمذهبي، ولكنّهم سرعان ما انقلبوا على أنفسهم وبدّلوا واتّخَذوا موقفاً مغايراً أحاط الجيشَ بكلّ آياتِ الدعم والتأييد. والمضحكُ المبكي أنّ «الرعية المشحونة، تلحَق بهم وتنساق خلفَهم راضيةً مرضية وبلا أيّ نقاش أو اعتراض.

• في العلاقات السياسية صوَرٌ كاريكاتورية وتوازنٌ مفقود، انسجامٌ وهميّ وتضامنٌ مدَّعى، و تكاذُب علنيّ لا مثيلَ له، وتحت كلّ ذلك حقيقة ساطعة: لا يُعرف مَن مع مَن، ومَن ضدّ مَن، الكلّ كامنٌ للكلّ، والكلُّ ينتظر الكلَّ على الكوع، وهكذا حتى لم تعُد في الكوع مساحةٌ للوقوف عليها.

• مجاهرةٌ يومية إلى ما فوق الصراخ، بأنّ النازحين السوريين عبءٌ بات أكبرَ وأضخمَ من أن يُحتوى بآثاره وسلبياته على المجتمع اللبناني، والخوفُ يتزايد من أن تتحوّل المخيّمات التي تؤويهم إلى معسكرات للإرهابيين، ولكنْ عند لحظةِ المقاربة لهذا الملف، الأصواتُ المجاهرة نفسُها تفرش عواطفَها على الأرض وتبدأ بالتباكي، واشتراطِ عودتهم الى بلادهم بضمانات إقليمية ودولية لأنّ «سوريا الأسد سجنٌ كبير».

• يشتركون جميعاً في القول إنّ في مخيمات النزوح السوري «ملاذاتٍ» للإرهابيين والانتحاريين، الذين يهدّدون لبنان كياناً وشعباً، وأمّا عند التفكير بعلاجٍ ما أو عملية عسكرية ضدّهم، كما جرى في العملية الأخيرة للجيش اللبناني في جرود عرسال، يَخلع البعض أقنعتَهم ويقيمون القيامة ولا يُقعِدونها، ويوضَع الجيشُ في قفص الاتّهام وتشَنُّ عليه حملةُ شحنٍ وتحريض كأنّه جيشٌ عدوٌّ، وتنهمر دموع بعضِ تماسيح السياسة على وفاة موقوفين، وكأنّهم بذلك يقدّمون أوراقَ اعتمادهم لجهةٍ خارجية ما، فيما إنسانيتُهم هذه لا تنسحبُ على أماكنَ أخرى، وتغمضُ عينيها على أمورٍ تستوجبُ الإنسانيةَ الحقيقية، وها هي الرقّة، فيها نازحون وسوريون ومدنيون، أطفالٌ، نساءٌ عُجَّز، قتَل منهم التحالف الدولي لمحاربةِ الإرهاب العشراتِ بل المئات، باعترافه، ومع ذلك لم تنهمر دمعةٌ من أيّ تمساح لبناني، ويَبلع مدَّعو الإنسانية ألسنتَهم وتَخرس أصواتُهم!

• «تَوَهانٌ» سياسيّ حقيقي في قراءة واقعِ المنطقة وتطوّراتها، ورفضٌ للقبول أو التصديقِ أو الاقتناع بما يخالف تمنّياتِ البعض ورغباتِهم. المنطقة كما هو واضح مقبلةٌ على تطوّرات دراماتيكية في الجانب المتعلّق بالحرب على الإرهاب، وخصوصاً في سوريا ربطاً بتحرير الموصل، وبالتحضيرات لتحرير مناطق أخرى كالرقّة ودير الزور وغيرهما، وبنتائج اللقاء بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والخريطة التي رسماها، فيما بعض الأصوات تتبرّع بسيناريوهات مغايرة، ونصائحَ خبيثةٍ بأنّ القرار طالما اتّخِد لضرب «التكفير السنّي» فيجب أن يقترن بضرب «الإرهاب الشيعي» المتمثّل بـ«حزب الله»؟ وثمّة مِن هؤلاء مَن هو مقتنع بأنّ النار ستشتعل من الحدود الجنوبية إلى الحدود مع سوريا، وإسرائيلُ متحضّرةٌ لهذه الحرب وفي قناعةِ هؤلاء أنّ «حزب الله» سيَسقط في سوريا وسيُهزَم في لبنان؟!

يتسلّل من هذه المشاهد والتناقضات سؤال: في هذا الوضع، كيف يستمرّ البلد؟ وثمَّة جوابٌ طبيعي: إنّه يستمرّ بالصُدفة! يقال: البلد ماشي، إنّما كيف؟ وإلى أين؟ لا أحد يعلم!

على أنّ السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو: أيٌّ صورةٍ للبنان بعد أيام؟

ليس المقصود هنا، الجانب السياسي وما يتّصل به حكومياً وتنفيذياً، فالأملُ مقطوع بإمكان حدوثِ نقلةٍ نوعيةٍ فيه تمحو القاعدةَ المزمنة التي تَحكمه ويَرتكز عليها منذ سنوات طويلة وعنوانُها: «فالج لا تعالج»، وتُزيل من أذهان الناس قناعتَهم الراسخة عن الطاقم السياسي بأنْ «لا حياةَ لمن تنادي».

بل إنّ المقصود هو «الفالج الأمني»، فلبنانُ كما تؤشّر الوقائع العسكرية، يقفُ على حافّة مرحلةٍ جديدة، تصوغها الحرب على الإرهاب في جرود عرسال، وعنوانُها الانفراج الأمني.

فالحرب، وكما توحي المؤشّرات، حتميةٌ، واتُّخِذ القرارُ بالحسمِ واستئصال بؤرةِ عرسال وفَقءِ «دمّلة» الإرهاب في الجرود، بمعزلٍ عمّا إذا كان «حزب الله» سيقوم بذلك مع الجيش السوري أو الجيش اللبناني. والأساس في القرار معركةٌ خاطفة لا يكون أمدُها طويلاً.

وعلى ما هو واضحٌ أنّ قرار الحسم هذا مُغطّى بـ»ضوء أخضر»، ليس داخلياً على الإطلاق، بل قرارٌ صار يَنظر إلى تلك البؤرةِ وما فيها على أنه ورَمٌ خطير، يتهدّد لبنانَ كلّه، وعلى وجه الخصوص المناطق السنّية في عرسال وغيرِها التي كادت تفقد نفسَها، وضاقت ذرعاً بالمنافسة على لقمةِ عيشِها، وبحصارٍ تفرضه المجموعات الإرهابية عليها من الداخل لابتلاعِها وطمسِ هويتِها وتاريخِها وانتمائها إلى لبنان.

بمعنى أنّ هذا القرار يشبه إلى حدّ كبير ذلك «الضوء الأخضر» وامتداداتِه، الذي بارَك في مرحلةٍ معيّنة معركة عبرا والإطاحة بأحمد الأسير الذي اعتُبِر حينَها «حالةً شاذّة»، بعدما كان في مرحلة سابقة «حالةً استثمارية» لبعض الأطراف. وقد تَبدَّت علائمُ هذا الضوءِ الأخضر بـ»الليونة» التي تَحكمُ مقارباتِ البعض لهذه المسألة.

وإذا كان المستفيدُ الأوّل من تلك الحرب على إرهابيّي الجرود، القرى السنّيةَ المحتلة، والقرى الأخرى القريبةَ منها الشيعية والمسيحية، إلّا أنّ المستفيد الأساس هو لبنان، إذ إنّ إنهاءَ هذه البؤرةِ يشكّلُ مفتاحَ التخلّصِ من عبء مرحلةٍ بكاملها، عمرُها من عمر الأزمة السوريّة، ويَفتح على مرحلةٍ جديدة تُدخِل لبنانَ في دائرة الاطمئنان أكثر، وتَفتح بدورها على تَعاطٍ أمنيّ وسياسي أكثر مرونةً وارتياحاً، وعلى قدرةٍ أكبر لتنظيف الداخل، يصبح معها ضربُ ما تبَقّى من خلايا نائمةٍ في بعض المناطق أكثرَ سهولةً من أيّ وقتٍ مضى.

وأمّا الأهمُّ مِن كلّ ذلك فهو تحصينُ هذا الإنجاز المرتقَب، وهنا يبقى الرهان على الأداء السياسي الذي يَحكم تلك المرحلة ويضع هذا الإنجاز بين أن يُكرمَ بالتحصين أو يُهان.