IMLebanon

ماذا بعد الضربات العسكرية المتواضعة؟

 

ما ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وهدأت الأوضاع بما يكفي، ليرى المتحاربون ماذا فعلوا بأنفسهم وبهذا العالم الذي قضوا فيه على كل أخضره واليابس، فإن أكثر ما لفت أنظارهم واهتمامهم في ذلك الوقت من تاريخ البشرية الحديث، ذلك السلاح الكيماوي الذي استُعمل في تلك الحرب الضروس، بإطارات واسعة لا يقاس أثرها المخيف، بذلك الذي خلفته الأسلحة التقليدية التي كانت على ما وصلت إليه من حداثة وتطور لا تقاس بما هي عليه الأسلحة الحديثة في هذه الأيام، التي أقامت مهرجانا استعراضيا لها، من خلال الضربات اليومية التي وجهتها كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا إلى تسع مواقع محددة بدقة ورشاقة وجمال (وهي صفات أطلقها الرئيس ترامب على الأسلحة التي هدد بها العالم، وتمّ هذا التوصيف بصورة محددة ومختصرة، وحشد لها مع حليفيه ما تيسر له من حاملات طائرات وسفن حربية وغواصات عادية وذرية وطائرات وصواريخ هي الأدق والأخطر والأكثر تطورا)، الأمر الذي أرهب العالم بأسره، خشيةً من تلك الضربة التي توقعها العالم بأسره وتوقع معها احتمالات احترابية شتى، يجيء في رأس قائمتها، احتمال نشوب حرب ضروس تطاول رؤوس العالم الأساسيين، وحدّد المهاجمون أهدافهم الحقيقية من تلك الضربة، فأكدوا أن حدودها تقتصر على النطاق الكيماوي، وأنها موجهة، على ما أعلنوا في بياناتهم أنها ضد الرئيس الأسد وحده لا شريك له؟! وأنها اقتصرت على الأماكن ذات العلاقة بالسلاح الكيماوي، وأنها توقفت عند هذه الحدود، إلاّ اذا أُعيدت الكرّة، فإن الضربة ستستعاد مجددا إلى مسرح الأحداث.

وقد تناسى هؤلاء أمورا عديدة:

– إن الرئيس الأسد، لم يعد ذلك الأسد المتحكّم بأوضاع بلاده، وإن القرارات وتنفيذها، وشؤونها وشجونها على مدى البلاد بأسرها قد باتت ممسوكة من قبل روسيا أولا، وإيران وملحقاتها الميليشياوية ثانيا.

– إن «الضربة الجهنمية» قد اقتصرت على الماديات بعد أن تم إعلام المسؤولين الروس بحجمها، وبعد أن تم لملمة الأسلحة والذخيرة، الكيماوية والكلاسيكية من موقعها، وبعد أن أُخلِيَ المقاتلون العسكريون والميليشياويون من أرجائها.

– اختفت من الأجواء أو كادت، المواقف الحادة المتعلقة بمصير الرئيس الأسد التي سبق أن حددتها قرارات صادرة عن الأمم المتحدة وتم التأكيد على حصرية الضربة بصفتها التأديبية، على جرم استعمال الكيماوي، ونسي المهاجمون والصّامتون، أن أطنانا من القنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية، ما زالت حتى اليوم تنهمر على جموع الناس من قبل الروس والإيرانيين والميليشيات المستتبعة للحرس الثوري، وأن القتل لا يتم فقط من خلال الوسائل الكيماوية وحدها، بل إن التدمير الهمجي المؤثر والمثير للنفوس والضمائر، هو بشكل خاص نتيجة للسلاح التقليدي الذي لم يعد تقليديا، فمنذ أن وُقّعت اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية عام 1945، طرأت عليه تطورات وتطورات، جعلت منه سلاحا فتاكا شاملا مشبعا بالتكنولوجيات الحديثة بأقصى حدود التطور، أين منه فتك السلاح الكيماوي، وأن الذين وقّعوا على المعاهدة عام 1945، كانوا ليغيروا رأيهم في توجيه انتباههم إلى السلاح الكيماوي وحده لو كان السلاح التقليدي متطورا بحجم ومدى ودقة تطوّره وحجم أثره في هذه الأيام.

– وبعد: ما حصل قد حصل، بحجمه المتواضع وأثره الأكثر تواضعا. وهذه الصورة شبه السلبية التي تطرقنا إليها أعلاه، تخترقها دون شك، معالم بعض الإيجابيات.

– مما لا شك فيه أن هذه الغارات التسع قد تشكل منها على وجه الخصوص بعض التحذير إلى روسيا، التي ما زالت حتى الآن ترفع راية حامي الحمى للأسد ونظامه، معلنة عن تشبثها إلى أقصى مدى ممكن ببقائه في الحكم والرئاسة، ومتجاهلة أن الغالبية الكبرى من الشعب السوري أصبح معظمها في حالة دياسبورا وتشرد وهجرة وهرب إلى العالم الواسع، ولا أحد إلاّ ويرى حجم القتل والإخفاء والدمار والخراب الذي لحق بهذا البلد العريق في حضارته وتراثه وعمرانه، ولا أحد إلاّ ويُدين روسيا على تصرفاتها المدمرة والقاتلة وطموحاتها إلى الارتقاء بمستواها إلى الدرجة الاستعمارية وإلى لقب الدولة العظمى قولا وفعلا.

– لا شك أن روسيا الغارقة في مشاكلها الاقتصادية والتنموية ستتأثر بهذه الضربات، حتى من حجمها المتواضع وقد بدأت تتكرس لدى الغرب جملة من الأحاسيس بأن الروس يسعون إلى تكبير أحجامهم بأكثر مما هي عليه وبأهمّ مما تمكّنهم طاقاتهم وقدراتهم، وأنه لا بد أن يطلقوا انذارا ما بهذا الخصوص، وربما كانت بداية هذا الإنذار ما تمثل بالضربات الأخيرة، واذا كان ترامب قد تراجع عن إعلانه برغبته في ترك سوريا، وقد أكد مؤخرا على بقائه فيها لأسباب عديدة ذكرها بالتفصيل، مع تلميحه إلى نواياه بإحلال قوى تابعة لجملة من الدول العربية مكانه.

ذلك كله يوحي بأن الإنذار قد كان له نتيجة «وإن كانت متواضعة، حتى الآن، وأن مقبل الأيام سيحفل باللقاءات والقرارات والتوجهات التي ربما كانت أكبر حجما وأشدّ أثرا».

كثير من المصالح المشتركة ما زالت تربط روسيا بالغرب، ربما دفعت بكل منهما إلى الجنوح نحو تخفيضٍ حقيقي للإحتقانات والمواقف المتحجرة كما هو الوضع في سوريا. تبقى إيران وإصرارها على التشبث بأوضاعها الجديدة التي تعتبرها انجازا وتفوقا وبدايات فوز محقق. أكثر المحللين يذهبون إلى مراقبة تطورات المواقف الأميركية المقبلة بصددها، خاصة وأن ترامب يواجه الوضع الإيراني أساسا، بأشدّ وأدهى المواقف والتوقعات.