IMLebanon

عن أيّ دستور يتحدّث باسيل؟

 

تستعيد بعض القوى السياسية بين التكليف والتأليف النغمة السياسية المكرّرة إياها: يجب تحديد التكليف بمدة زمنية محددة؛ التكليف المفتوح يُبقي البلد رهينة إرادة الرئيس المكلف؛ لا يمكن إبقاء الأمور على هذا المنوال،… وإلى ما هنالك من هذه النغمة الرامية إلى التهويل على الرئيس المكلف بغية انتزاع مكاسب سياسية.

 

السؤال البديهي الذي يطرح نفسه: هل يتحمّل الرئيس المكلف سعد الحريري مسؤولية التعذّر في تأليف الحكومة؟ وهل إنّ إعادة تكليفه او تكليف غيره يفضي إلى تأليف حكومة فوراً؟ وماذا يعني تحديد مهلة زمنية للتأليف؟ وما الحلول المقترحة لتجاوزِ عقبة التأليف؟

 

 

لا يمكن الكلام عن عقدةٍ سنّية فعلية مثلاً لكي يقال إنّ الرئيس المكلف يتمسّك بوجهة نظره ويرفض النقاش في وجهة النظر الأخرى، أو إنّ ما يعطّل التأليف يتعلق حصراً بهذه العقدة التي يشكّل حلّها مفتاحَ تأليف الحكومة.

 

 

معلوم أنّ الحريري عملَ على تفكيك هذه العقدة، فلا يمكن الحديث عن عشرة نوّاب سنّة، ومعلوم أنّ «حزب الله» طرَح هذه المسألة على طريقة رفعِ العتب، وهو يفضّل بالتأكيد أن تتمثّل المعارضة السنّية، ولكنّه لن يدخل في مواجهة مع الحريري حول هذا الموضوع، فسجّلَ موقفاً مبدئياً وانتهى الموضوع بالنسبة إليه عند هذا الحد، فيما موقف رئيس الجمهورية ميشال عون الداعم لتمثيلِ المعارضة السنّية تمّ التعبير عنه أخيراً وليس قبل ذلك، ما يؤشر إلى رسالة سياسية أكثر منها مطالبة عملية.

 

 

في مطلق الحالات، معلوم أنّ العقدة الفعلية الأولى اليوم هي العقدة الدرزية، في ظلّ تمسّكِ رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» بالحصّة الدرزية الوزارية كاملة، مقابل رفضِ الوزير جبران باسيل ذلك بحجّة رفضِ منحِ جنبلاط «فيتو» ميثاقياً في مسألة تُطرَح للمرة الأولى، علماً أنّ موقف باسيل يُسقِط كلّ نظريته حول الميثاقية والتمثيل الفعلي لحزبٍ فاز بـ7 مقاعد من أصل 8، والمقعد الأخير فاز بالتزكية، ويكفي أنّ موقفه الذي لا يلقى دعمَ أيّ فريق سياسي يؤكّد أنّ ما يطرحه بعيد جداً عن الواقع، وهدفه محاولة كسرِ «الإشتراكي» والدخول على البيت الدرزي بغية تأمينِ صوتٍ درزي رئاسي، لأنّ ما يريد انتزاعَه باسيل اليوم لا يتعلق بالحكومة، إنّما يرتبط بالرئاسة من طريق خلقِ حيثية درزية ولو غير فعلية، مع كلّ الاحترام لشخص الأمير طلال أرسلان، من أجل القول إنّ هناك شريحة درزية مع انتخابه لرئاسة الجمهورية، في اعتبار أنّ باسيل متأكّد من انّ «الإشتراكي» لن يكون بهذا الوارد، وبالتالي هو يريد موطئ قدم لرئاسته في كلّ الطوائف من أجل تحويلِها «رئاسة ميثاقية».

 

 

وقبل الانتقال إلى العقدة الفعلية الثانية، لا بدّ من سؤال بسيط: ماذا يمكن ان يفعل الرئيس المكلف إزاء العقدة «الإشتراكية»؟ وهل يجب على الحريري ان يتبنّى وجهة نظر باسيل ليغضّ الاخير نظرَه عن المطالبة بتحديد مدة زمنية لتكليفه ويكون رئيساً مكلفاً استثنائياً وتاريخياً وفوق العادة؟ وهل إنّ تبنّي الحريري وجهة نظر جنبلاط انطلاقاً من المعطيات الانتخابية تدفع إلى المطالبة بإعادة النظر في مسألة التكليف ومدتها وترويج كلام غير مسؤول عن تكليف شفوي يمكن إعادة النظر فيه؟

 

 

فماذا يمكن أن يفعل الرئيس المكلف في هذه الحال؟

 

في الحقيقة، وعلى رغم اقتناع الحريري شخصياً، شأنه شأن كلّ القوى السياسية، بأنّ وجهة نظر «الإشتراكي» محِقّة، فقد بادر إلى فتحِ باب التفاوض بين عون وجنبلاط من أجل حلّ هذه الإشكالية. فما الجرم الذي ارتكبَه؟ وما المطلوب منه أكثر من ذلك؟ وكيف كان سيتصرّف غيره لو كان في الموقع نفسه؟

وفي الانتقال إلى العقدة المسيحية، هل المطلوب من الحريري أن يتبنّى وجهة نظر باسيل ليكون على حقّ، وخلاف ذلك يكون على خطأ؟ فعلى رغم اقتناعه بأحقّية «القوات» طلبَ من رئيس الجمهورية معالجة هذه العقدة مع رئيس «القوات» سمير جعجع الذي اجتمع بعون فطلبَ الأخير منه التواصلَ مع باسيل، وهكذا حصَل، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ قطعَ باسيل الطريق على المسعى الذي بادر إليه الحريري وتوّجه عون بشنّ هجوم ساحق وماحق على «القوات».

وبعدما عاوَد البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي التدخّلَ لإعلان التهدئة مجدّداً بمباركة عون وجعجع، أطاح باسيل بالتهدئة مرّة أخرى، وأسقط «إعلان الديمان» من دون أن يرفّ له جفن، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن خلفيات ما يقوم به باسيل وأهدافِه، وكأنه مكلّف ضربَ العهدِ عن سابق تصوّرٍ وتصميم، فهل لعاقِل أن يفتح مواجهةً بالتكافل والتضامن والتزامن مع رئيس مجلس النواب نبيه بري والحريري وجعجع وجنبلاط وسليمان فرنجية؟

على أنّ الهجوم على الحريري أتى بعدما لمسَ باسيل أنّ تراجع «القوات» و»الإشتراكي» غير وارد، وأنّ الرئيس المكلف ليس في وارد تقديمِ حكومة أمر واقع ترضي باسيل، فتقرّر الهجوم على الحريري تحت عنوان تمثيل المعارضة السنّية، لأنّ العناوين الأُخرى تهويلية ولا قيمة لها، والهدف من هذا الهجوم ليس الدفاع عن حقّ المعارضة السنّية بالتمثيل، بل استخدام هذه المعارضة ورقةً في وجه الحريري لدفعِه إلى المقايضة الآتية: تتراجع عن دعمِك لوجهة نظر «القوات» و»الإشتراكي»، نتراجع عن تمثيل المعارضة السنّية.

 

 

وإنْ دلَّ الاشتباك المفتوح على أكثر من جبهة الى شيء، فإنه يدلّ الى ضياعٍ وتأزّمِِ وتخبُّطِِ وعشوائية، وربّما انتحارية سياسية، وإذا كان باسيل قد قال إنّ «صبره بدأ ينفِد»، فالصحيح أنه نَفدَ منذ زمن طويل، لأنه لا يمكن تفسير ما يقوم به إلّا بكونه ينمّ عن «طيشنة» سياسية وخبط عشواء وافتعال مواجهات عن سابق تصوّر وتصميم، وكلّ ذلك لا يقود سوى إلى نتيجة واحدة: هزّ الاستقرارِ السياسي وضرب الركائزِ التي قام عليها العهد.

وفي ضوء كلّ ما تقدّم، فإنّ المشكلة ليست في التكليف، بل في التأليف الذي لا يتحمّل الرئيس المكلف وحده مسؤوليته، فهو في نهاية المطاف يتشاور مع كلّ الكتل النيابية ويحاول التوفيقَ بين مطالبها من ضِمن معايير معينة ومحدّدة، وعاملُ الوقت يشكّل أحد العوامل الأساسية في المفاوضات، وهذا العامل بالذات الذي كان يستخدمه باسيل سيفاً مسلطاً على خصومه تحوّلَ سيفاً مسلطاً عليه.

فلو تمّ الافتراض مثلاً أنّ للتكليف مهلةً فهل كانت تألّفَت الحكومة؟ بالتأكيد كلّا، والرئيس المكلف كان سيجد نفسَه أمام خيارين: تقديم تشكيلة ترضي باسيل على حساب جعجع وجنبلاط، أو تقديم تشكيلة ترضي جعجع وجنبلاط على حساب شروط باسيل التعجيزية، فيَرفضها رئيس الجمهورية، وبالتالي الأساس يبقى بالتوافق السياسي، خصوصاً مع كتل نيابية وازنة وممثلة فعلية لبيئاتها السياسية والتي لا يمكن تجاوزُها وعدم الاعتراف بما أفرزته الانتخابات من نتائج.

وأمّا الهدف الأساس لتحديد مهلةٍ للتكليف، والذي لن يتحقّق طبعاً، فهو انتزاع مبادرة التأليف من يدِ الرئيس المكلف، وافتعال العراقيل أمام أيّ رئيس مكلف ترفضه جهة معيّنة بغية منعِه من التأليف واستبداله برئيس مكلّف آخر، وبالتالي الهدف من المهلة تحويلُها سيفاً مسلطاً وابتزازاً دائماً.

الرئيس المكلف لا يتحمّل مسؤولية التعذّر في تأليف الحكومة، ومن يتحمّلها هو القوى السياسية مجتمعةً والتي عليها مؤازرته وتسهيلُ مهمته، لأنه لا يشكّل حكومةً لفريقه السياسي، بل يشكّلها لكل البلد، وبالتالي كلّ القوى معنية بالتعاونِ معه لا تعقيدِ مهمّتِه، كما يفعل باسيل اليوم. والكلام عن إعادة تكليفه أو تكليف غيره من أجل كسرِ حلقةِ الجمود في التأليف هو كلام محضُ هراء، لأنّ الجمود ليس الرئيس المكلّف مسؤولاً عنه، بل الجهة المعطّلة وهي معروفة لدى جميع اللبنانيين.

وأمّا كلام باسيل عن أنّ «مهلة تأليف الحكومة بدأت تنتهي» فيدفع إلى التساؤل الآتي: عن أيّ دستور يتكلم باسيل؟ وعلى أيّ مادة استند تحديداً؟ وعن أيّ جمهورية يتحدّث؟