IMLebanon

ماذا لو استقال الحريري!

 

تظهر المقارنة التفصيلية، بين إطلالة رئيس الحكومة سعد الحريري أول أيام الحراك الشعبي حين منح نفسه والآخرين 72 ساعة لإيجاد مخرج لمأزق الحكومة، وبين إطلالته بعد جلسة الحكومة الأخيرة، ليعلن عناوين ورقة حكومته الإصلاحية… كيف تغيّرت خلفية المشهد في بيت الوسط.

 

في المرة الأولى بدا رئيس الحكومة مربكاً، شبه “مشلول”، مكتوف الأيدي، مستسلماً لهتافات الشارع، يُقعِده “الغموض” الذي يكتنف الانتفاضة الشعبية. تجتاحه الأسئلة الخبيثة الباحثة عن الخلفيات الحقيقية المخفية لما يحصل على الأرض، عن مقاصده وغاياته، عمن يقف وراءه وعن سقوفه و”بنك أهدافه”… رزمة من السيناريوات كانت تدور في ذهنه محاولة استباق نهاية المشهدية البركانية التي يستضفيها الشارع على منابر العاصمة وكبرى المدن.

 

رمى الكرة في ملعب الجالسين على طاولته، وتحديداً القوى الأساسية، وفي مقدمها رئاسة الجمهورية و”حزب الله” ممهداً الطريق لأي خطوة قد يضطر للاقدام عليها، من طبيعة “تمردية”، كرفع البطاقة الحمراء وترك الملعب على وقع الزلزال الشعبي. في تلك اللحظة، لم يشطب الحريري احتمال إحراجه في الشارع لإخراجه من رئاسة الحكومة ربطاً بمتغيرات إقليمية قد تسري على الداخل اللبناني وتبدّل قواعد اللعبة السارية منذ دخول العماد ميشال عون قصر بعبدا.

 

… إلى أن أتته التطمينات من الداخل ومن خارج الحدود التي دفعته إلى حذف السيناريوات التراجيدية، وتحويل جهوده لناحية السيناريوات المنتجة، وتوظيف الضغط الشعبي على شكل قوة داعمة للخيارات “الاصلاحية”. فكانت اطلالته الثانية أكثر وقعاً.

 

بدا الحريري على منبر رئاسة الجمهورية واثقاً مما يفعله. لا بل لم يتردد في ممازحة الاعلاميين و”التنكيت”، وكأنّه يعلن مقررات جلسة عادية لا تحاصرها حناجر الثوار وقبضاتهم. استعاد الرجل هدوءه على رغم الهتافات التي تملأ الساحات.

 

أدرك رئيس الحكومة أنّ أفضل طريق لبلوغ آذان مفترشي الطرق هو من خلال التماهي مع لهجتهم وخطاباتهم والالتحام بمطالبهم ومخاوفهم. حاكى تطلعاتهم وهواجسهم. تجنّب النغمة الاستفزازية وتعابيرها. أكثر من ذلك، شرّع الباب أمام كل الاحتمالات وحاول اقناعهم أنّه لن يختبئ خلف أي ستار، وأن لا يخشى التصعيد في الشارع تحت أي عنوان… وليجرف نهر الاعتراض كل الطبقة السياسية: فلتكن انتخابات نيابية مبكرة إذا لزم الأمر.

 

ولكن بعيداً من مضمون سلّة المعالجات المطروحة، القابلة للنقاش والتفنيد، وبمعزل عن موقع الحريرية السياسية التي تشكل ركناً أساسياً من المنظومة التي يتمّ “إسقاطها” في الشارع وتحميلها مسؤولية الانهيار المالي، فقد تعامل المعترضون مع سعد الحريري على أنّه أقل استفزازاً من غيره أعضاء “اللائحة السوداء”.

 

صحيح أنّ لسان حال الشارع اللبناني هو “كلن يعني كلن”، وثمة شارع بأكمله “يشيطن” الحريرية السياسية، ولكن الرجل لا يزال بإمكانه أن يقف على المنبر من دون أن يرجم بالكامل، على خلاف مثلاً رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي اشتغلت ماكينات اعلامية وسياسية على تحطيم صورته، ونجحت. فصار اسمه مرادفاً لـ”انتفاضة 17 تشرين”.

 

هكذا، قرر الذهاب إلى الآخر، ربما لإدراكه أنّ لبنان ليس بلد الثورات الكاملة، وثمة دائماً جوانب ثابتة في كل تغيير. لكنه حاول امتصاص نقمة الشارع خصوصاً وأنّه تحصّن بأكثر من درع:

 

الأول خارجي ثبّتته دول القرار التي تتعامل مع الحريري بوصفه “ناظم” الاصلاحات المطلوبة لتأمين الدعم المالي. الثاني داخلي فرضه الحريري بوصفه حاجة لـ”حزب الله” كجسر تواصل مع الدول والهيئات المانحة أقله في هذه المرحلة للحؤول دون الفوضى المالية وللحفاظ على التوازن السياسي في هذه اللحظات الصعبة. الثالث سنيّ أمّنه رؤساء الحكومات السابقون الذين اصطفوا إلى جانبه داعمين عودته لرئاسة الحكومة الجديدة أياً كانت “وصفتها”.

 

يدرك الحريري أنّ ورقته لم “تحترق”. ولهذا يبدي انفتاحه على أكثر من حلّ علاجي، سواء كان من طبيعة تعديل وزاري أو حتى حكومي. هو مقتنع أنّ انتفاضة الشارع تحتاج إلى صدمة كهربائية وسيحاول أن يقطفها من خلال تقديم أسماء تعيد ثقة الناس بالطبقة السياسية كما اعترف في مؤتمره الصحافي.

 

ويعرف في المقابل، أنّ خروجه من نادي رؤساء الحكومات لا يعني أبداً إحالته إلى التقاعد المبكر لحاجة الآخرين لوجوده في رأس السلطة التنفيذية، والتي توازي حاجته للبقاء في هذا المنصب، وأنّ استقالته في هذه اللحظة تعني الفوضى فيما البلاد تقف على الشوار ويمكن لأي نسمة هواء أن ترميها في القعر.