IMLebanon

عندما يبوح وزيرٌ «مقهور» بالمحظور

 

قبل سنة وبضعة أشهر، تلا رئيس الجمهورية في احدى جلسات مجلس الوزراء في القصر الجمهوري، ورقة صغيرة على الحاضرين، جاء في مضمونها ان حجم الدين العام سيصل في العام 2020 الى 110 مليار دولار، وبالتالي، ينبغي اتخاذ اجراءات لمواجهة الكارثة المُقبل عليها البلد.

تبيّن في حينه ان وزير الاقتصاد، رائد خوري يقف وراء هذه الورقة الرئاسية، التي أحدثت بلبلة، ليس في اوساط الرأي العام فحسب، بل داخل مجلس الوزراء. يومها، كان وزير المالية في طليعة المعترضين، على مضمون الورقة، واعتبر انها مجرد توقعات لا تمت الى الحقيقة بصلة. وكان حجم الدين العام في حينه أقل من 80 مليار دولار.

اليوم، يقف وزير الاقتصاد ليذكّر بتلك الورقة، وليؤكّد ان الدين العام سيصل فعلا الى 110 مليار دولار في 2020، واننا اليوم في حالة مالية واقتصادية طارئة، وينبغي ان نتخذ قرارات واجراءات تتناسب مع حالات الطوارئ، بكل ما للكلمة من معنى.

واذا كان اعلان حال الطوارئ في الانقلابات العسكرية، او في حالات الحرب، يقضي باتخاذ اجراءات قاسية تقيّد الحريات والتحركات التي يتمتع بها المرء في الوضع الطبيعي، فان ما يدعو اليه خوري اليوم لا يختلف كثيرا. وهو يقول بوضوح ان البلد يحتاج الى قرارات غير شعبية سريعة، من أهمها ما يلي:

اولا- إنهاء الوضع الشاذ في الكهرباء التي تكلف الخزينة حوالي ملياري دولار سنويا. وهذا الامر ينبغي ان يتم فورا، ولا يحتمل التأجيل.

ثانيا- اعادة النظر في حجم القطاع العام، خصوصا في النظام التقاعدي.

ثالثا- تبديل النمط الاقتصادي القائم حاليا، من خلال تنفيذ خطة لرفع الرسوم الجمركية على كل السلع الاستهلاكية المستوردة المصنفة متوسطة وما فوق.

عندما يطرح وزير الاقتصاد فكرة الرسوم الجمركية، يستطرد من دون أن يُسأل ليقول: «طبعا، قد ينتقدني البعض ويقول لي، هل تريد ان تطبق التجربة الكوبية في لبنان؟ انا مؤمن بالنظام الاقتصادي الحر، ولا اؤيد وضع القيود، لكنني اعرف اننا اليوم في حالة طارئة، وكل المعالجات الممكنة مسموحة لانقاذ البلد. طبعا، قد يُقال ان هذا الامر غير ممكن عملياً، لأن لبنان يرتبط باتفاقات تجارية مع دول العالم، وفي مقدمه الاتحاد الاوروبي. علينا أن نجرّب، وان نتحدث الى الاتحاد الاوروربي في هذا الشأن. ولا ننسى انهم يريدون تقديم قروض لنا، علينا ان نقنعهم بأننا لن نكون قادرين على تسديد هذه القروض اذا لم يساعدوننا في عملية انقاذ الاقتصاد». ويكشف خوري في هذا السياق، انه بعث بأكثر من رسالة الى الاتحاد الاوروبي، طالبهم فيها باعادة النظر في الاتفاقات التجارية، لكنه لم يتلق اي جواب. وهنا يستدرك ويوضح، انه يعرف ان قرارا من هذا النوع لا تستطيع ان تتخذه وزارة الاقتصاد، بل يحتاج الى قرار حكومي شامل.

ويبرّر وزير الاقتصاد تحركه المنفرد بأنه يدرك حجم الكارثة. «نحن نعيش في بلد يبلغ العجز السنوي في ميزانه التجاري 18 مليار دولار سنويا. وقياسا بحجم اقتصادنا، هذا الوضع لا يستطيع ان يستمر. كل عام يخرج 18 مليار دولار بالعملة الصعبة وعلينا ان نعوّض هذا المبلغ بواسطة جذب الرساميل. والكارثة اننا بلد غير منتج».

وعندما تلفت وزير الاقتصاد الى انه يقف شخصياً وراء خطة ماكينزي الشهيرة، فلماذا لا يكون تطبيق هذه الخطة هو الحل بدلا من الاقتراحات غير الشعبية التي يقدمها الان، يعترف بأن «الوضع في لبنان حاليا لا يحتمل انتظار خطط بعيدة المدى. الوضع بلغ من الخطورة، ما يستدعي اتخاذ اجراءات مؤلمة وفورية. ولاحقا، يمكن الاعتماد على خطة ماكينزي، لأنها خطة متكاملة ترسم نهجا عاما تسير عليها الدولة، وهو نهج يحوّل الاقتصاد اللبناني من مجرد اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج».

طبعا، يدرك وزير الاقتصاد انه عندما يتحدث عن رفع التعرفة الجمركية على السلع المتوسطة وما فوق، فان ذلك يعني تغيير نمط عيش اللبناني، ودفعه الى نوع من الحرمان على غرار الأنظمة الموجّهة، لكنه يقول انه لا يستهيب المطالبة بهذا الامر، لأن الانقاذ يحتاج قرارات مؤلمة، «اما أن نتخذها بأنفسنا، واما أن تُفرض علينا من الخارج عندما نقع، وستكون موجعة أكثر. علينا ان نختار منذ الان».

وفي موضوع حساسية ملف تغيير النظام التقاعدي، خصوصا انه يطال شريحة واسعة، من ضمنها المؤسسات العسكرية والامنية، وقد يصعُب ايجاد طرف سياسي مستعد للتصادّم مع هذه المؤسسات، يقول خوري انه شخصيا سبق و»سوّد وجهه» مع هذه المؤسسات، لأنه طرح الموضوع، وحاول إقناعهم بأن لا مصلحة لأحد بأن ينهار البلد. «اذ ان ما يتقاضاه المتقاعد ستهبط قيمته، ومن مصلحته الحفاظ على الخزينة، لكي تبقى قادرة على تأمين راتبه التقاعدي وتعويضاته. يقولون لي هذا حق مكتسب. ولكن ما قيمة الحق المكتسب اذا انهارت الدولة ولم تعد قادرة على الدفع؟»

ويكشف وزير الاقتصاد انه فاتح رئيس الجمهورية بهذا الموضوع الحسّاس قبل الانتخابات النيابية، لكن الرئيس استمهله لطرحه الى ما بعد الانتخابات، على اعتبار ان كل الاطراف السياسية قد لا توافق على دعم اقتراح مماثل غير شعبي قبل الانتخابات.

ولا يبدو خوري موافقا مع من يقول ان لبنان عصيٌ على الانهيار، بدليل انه مرّ في حروب داخلية قاسية وصمد فلماذا ينهار اليوم؟ ويذكّر خوري من يستشهد بهذا الرأي ان اللبنانيين عاشوا في الحرب على الـPicon والـMaling (جبنة ومرتديلا). لقد تقشفوا دون ان يشعروا. اليوم، نحن في حاجة الى التقشّف، لأننا في حالة هبوط اضطراري. وفي هذا النوع من الهبوط هناك طريقتان: soft landing وHard landing. الهبوط اضطراري وسيجري، وخيارنا محصور بأمرين: اما هبوط سلس وأضرار أقل، واما هبوط قاسٍ وأضرار اكبر وأقسى.