IMLebanon

عندما ينتفض «أصحاب» المزرعة و«أتباعها»

برزت من جديد قضية العلاقات اللبنانية السعودية كملف ساخن ومُقلق على كل المستويات. وتوحي المؤشرات بأن هناك جهات تسعى الى تعقيد هذا الموضوع والدفع به نحو التأزّم الاضافي، في حين أن تفشي الشعبوية، يساعد أحياناً على تلبية طموحات من يتربّص شراً بهذه العلاقات، ويسعى الى تدميرها.

كلما طفت الى السطح أزمة العلاقات اللبنانية – السعودية-الخليجية، تبرز الحاجة الى اعادة التذكير بمجموعة من الحقائق الاقتصادية التي لا يعرفها البعض، ويغضّ البعض الآخر الطرف عنها عن سابق تصوّر وتصميم.

من أهم هذه الحقائق ما يلي:

اولا – على مستوى الاستثمارات المباشرة. بلغ إجمالي قيمة المشاريع الاستثمارية الأجنبية المباشرة في لبنان، 14.7 مليار دولار بين كانون الثاني 2003 وأيار 2015. وبلغت حصة الدول العربية من هذه المشاريع 87 مشروعا بقيمة 11.4 مليار دولار، فيما كان للإمارات والكويت والسعودية الحصة الأكبر حيث استحوذت على 89.7 % من عدد المشاريع و98 % من قيمتها.

ثانيا – على مستوى الاستثمارات اللبنانية في السعودية والخليج. لا توجد ارقام دقيقة، لكن هناك معطيات تؤكد ان حجم هذه الاستثمارات القديمة والجديدة يبلغ مليارات الدولارات، وهناك شركات ومؤسسات لبنانية رائدة انطلقت من الخليج، او استقرت فيه، او انتقلت اليه.

وعلى سبيل المثال، في مجال المقاولات هناك شركات عالمية مثل «CCC» التي تخطى عدد عمالها في العالم عتبة المئة الف عامل. وفي التجارة، برزت مؤسسة «أبناء ضاهر» للملبوسات والمفروشات، التي يبلغ حجم أعمالها ما يقارب ملياري دولار سنوياً.

في قطاع المجوهرات هناك مؤسسة معوض، والتي بات اصحابها من اثرياء العالم. في النفط هناك، شركة «آل البساتنة» والتي سجلت مبيعات سنوية بنحو ستة مليارات دولار.

في الصناعة، تبرز أعمال مجموعة «آل فرام للصناعات الورقية والكرتون»، والتي تمتلك مصانع في لبنان، ومصر، والسعودية، وكندا، والولايات المتحدة، وحجم أعمالها يفوق ملياري دولار سنوياً.

ثالثا – على مستوى الاستيراد والتصدير. على الصعيد الصناعي، تتخطّى قيمة الصادرات اللبنانية إلى بلدان الخليج 30% من مجمل الصادرات اللبنانية. وقد بلغ حجم صادرات لبنان إلى السعودية خلال 2015 نحو 356 مليون دولار، فيما وصل حجم الصادرات إلى الإمارات وباقي دول الخليج 312 مليون دولار العام الماضي. على المستوى الزراعي، هناك اكثر من 60 في المئة من التصدير يتم الى اسواق الخليج.

رابعا– على المستوى السياحي. تجاوز عدد السياح الخليجيين الى لبنان في العام 2010 الـ 350 الف سائح. وقد تراجع هذا الرقم الى ما يقارب المائة الف سائح اليوم. هذا يعني في حُسبة بسيطة، أن لبنان يخسر حوالي 2.5 مليار دولار سنويا جراء هذا التراجع، على اعتبار ان متوسط انفاق السائح الخليجي هو عشرة الاف دولار.

خامسا – على مستوى التحويلات. رغم وجود تناقض في تقويم نسبة التحويلات الواردة من الخليج، الا ان التقديرات تتراوح بين 2 و4 مليارات دولار سنويا. بما يعني ان الخليج لوحده يستحوذ على 25 الى 50 في المئة من مجموع التحويلات من الخارج. وهناك حوالي 500 الف لبناني يعملون في بلدان الخليج العربي، بينهم 300 الف في السعودية لوحدها.

الى كل هذه الحقائق الاقتصادية، هناك لائحة طويلة بالمساعدات والهبات التي قدمتها دول الخليج العربي الى لبنان في السنوات الأخيرة، وفي فترات الأزمات المتكررة في البلد.

في موازاة هذه الحقائق، برزت في لبنان مواقف تعكس اختلال التوازن في التعاطي السليم مع مصالح الدولة والشعب. وبدا الوضع في الداخل، وكأن كل فريق فاتح على حسابه، ويعبّر عن مواقف «دولته» بصرف النظر عن موقف الدولة المركزية، والتي بدت وكأن لا موقف لها. وفي مناسبة الكلام عن الدولة، لا بد من الاشارة الى أن التسابق، الى اعلان عدم وجود دولة، مستمر منذ سنوات طويلة.

يستطيع أي مواطن ان يراجع شريط التطورات والتصريحات والمواقف، لكل الاطراف السياسية في البلد، ليكتشف ان كل الاطراف تقريبا، وفي مناسبة واحدة على الاقل، اعلنت ان لبنان ليس دولة، بل مزرعة. اتفقوا جميعا تقريبا على ان لبنان مزرعة، واختلفوا جميعا على تحديد المسؤول عن تحويل البلد الى مزرعة.

ناهيك طبعا، عن المجتهدين أكثر في هذا المجال، والذين نَظَّروا كثيراً بأن لبنان لم يصبح مزرعة، بل انه ولد مزرعة من الاساس، واستمر كذلك، تحت مُسمّى دولة.

وقد نما جيل بأكمله وهو يسمع كل يوم، وعلى لسان السياسيين والقادة الكبار، ان لبنان ليس دولة بل مزرعة. وحتى شعار «العبور الى الدولة»، الذي رفعه الطرف المتحمّس لسيادة واستقلال الدولة، انما يعني عملياً اننا لا نعيش في دولة، بل نطمح الى ان يكون لدينا دولة. وبعد ذلك نشعر بالاستفزاز من «كذبة اول نيسان»!

كل ما هو مطلوب اليوم مقاربة منطقية وعلمية وموضوعية للعلاقات اللبنانية السعودية – الخليجية. لا مصلحة للبنان في معاداة دول الخليج، ولا مصلحة لدول الخليج في معاداة لبنان، لكن التعاطي في هذا الملف يحتاج ان يكون بعيدا من المصالح وصراعات المحاور، وجنون العظمة، وأوهام العنفوان، الذي يغيب سنوات ثم يطل فجأة. لا أحد يعترض على العنفوان والوطنية، لكن الوطنية حالة عامة، وليست انتقائية كما هي مواقف من يستفيد من هذه المشاعر النبيلة.