IMLebanon

من أين نبدأ لإستعادة الأموال المنهوبة؟

 

تخوض الحكومة اللبنانية تجربة مالية صعبة وفريدة من نوعها الى حدّ ما. وكل خطوة تُتخذ اليوم، سوف تقرّر مصيرَ اللبنانيين غداً. فهل تبدو القرارات التي تتضمّنها الموازنة عقلانيةً وعلميةً وتساعد على ضمانِ وضعٍ أفضل في المرحلة المقبلة؟

 

قبل البدء في مناقشة مشروع موازنة 2018، لا بدّ من الاتفاق على توصيف الحالة التي وصل اليها البلد على المستوى المالي والاقتصادي، لكي تأتي المعالجات في موقعها الصحيح وتكون ناجعة. إذ لكل حالة علاج، ولا يجوز الخلط، على سبيل المثال، بين التقشّف والإصلاح والمحاسبة وتحريك الدورة الاقتصادية…

 

من هنا، ليس مألوفا في علم الاقتصاد التطرّق الى إجراءات محدّدة قبل توصيف الوضع بدقة. إذا كنا نتحدث عن إنقاذ (bailout) شيء، والحديث عن تفعيل الاقتصاد شيء آخر مختلف تماماً. كذلك هناك حالات يحتاج فيها الاقتصاد الى سدّ ثغرات وبعض الاصلاحات، وفي ظروف مختلفة يكفي وقفُ الهدر والفساد.

 

في الوضع اللبناني هناك مزيج من كل هذه الحالات، وبالتالي لا يمكن الاكتفاء بأحد هذه الإجراءات لكي يصطلح الوضع. هناك ضرورة لإجراءات إنقاذية، اصلاحية، تقشّف ومحاسبة واسترداد اموال منهوبة.

 

طبعاً، لا يمكن إنجاز كل هذه النقاط دفعة واحدة، كما لا يمكن تحقيق بعض الخطوات من دون تغيير الطبقة السياسية، وبالتالي، تقتضي الواقعية الاعتراف بالتالي:

 

اولاً- لا يجوز ربط كل العناوين في سلّة واحدة، بمعنى انّ من الضروري الإبقاء على الليونة، بحيث يمكن اختيار العناوين الأسرع والأكثر إلحاحاً وتطبيقها، من دون انتظار بقية العناوين. لأنّ الربط الإلزامي قد يوصل الى عدم اتّخاذ أيّ إجراء فعلي. لكنّ ذلك لا يعني الانتقائية المصلحية في تصنيف الخطوات التي ينبغي تطبيقها اولاً، لأنّ الاجتزاء في بعض الحالات يصبح قاتلاً أكثر من عدم اتّخاذ أيّ إجراء.

 

ثانياً- إنّ بعض الإجراءات التي لا يمكن تطبيقها فعلياً، من الافضل عدم تسليط الضوء عليها كثيراً في هذه المرحلة، لئلّا تؤدي الى تشويش في مزاج الرأي العام، وتبثّ الاوهام، فيتم تضييع البوصلة، وقد يتسبّب ذلك في تسريع الكارثة، لأنّ الناس ستتلهّى بعناوين شعبوية جذّابة، وتُهمل متابعة العناوين الإلزامية في الوقت الراهن لتفادي الوقوع.

 

في توصيف الوضع اللبناني، ولكي يُبنى على الشيء مقتضاه على المستوى المالي والاقتصادي، تنبغي الاشارة الى أنّ الأرقام والمؤشرات التي يجري اعتمادها للتوصيف، توحي في غالبيتها أننا أقرب الى عنوان الإنقاذ.

 

بمعنى، أنه لا يمكن الركون الى قليل من التقشّف، او بعض الإصلاحات، كما لا يمكن انتظار أو الاعتماد على استعادة المال المنهوب للخروج من المأزق.

 

والمتحمّسون اليوم لإقرار قانونٍ لاستعادة المال المنهوب – كأنّ المشكلة في عدم وجود قانون لتحقيق هذا الإنجاز- في مقدورهم العودة الى قانون من أين لك هذا وقانون الإثراء غير المشروع، ليتأكدوا أنّ القوانين في لبنان لا تقدّم أو تؤخّر.

 

طبعاً، هذا لا يعني انتقاد العمل على إصدار قانون لاستعادة الاموال المنهوبة، وهو أمر مطلوب من حيث المبدأ، لكن لا ينبغي تعليق الآمال على هذا القانون كثيراً، والتركيز على مكامن أخرى قابلة للتنفيذ السريع. اذ كيف نستعيد الأموال المنهوبة، وحاميها حراميها، إلّا إذا كان المقصود تصفية حسابات سياسية، من خلال انتقاء مَن خرج من السلطة فقط، والتصويب عليه في هذا المجال، في هذا الوضع، من المجدي أكثر، ومن العدل اكثر عدم استعادة الأموال المنهوبة!

 

إذا تجاوزنا هذه النقطة، وفي عودة الى مؤشرات الوصول الى مرحلة الإنقاذ يمكن أن نلاحظ واقعاً جديداً يُفترض أن يشكّل جرس إنذار اضافياً حول اقتراب الوضع من الكارثة، يتمثّل في نموّ الودائع المصرفية. إذ من المعروف انّ نسبة نموّ الودائع تُقرّر مبدئياً قدرة المصارف على تمويل القطاعين العام والخاص.

 

في العام 2018 تراجع نموُّ الودائع الى حوالى 3%. هذا النموّ الذي قابله ازديادُ حاجة الدولة الى الاقتراض من 4,8 مليارات دولار عام 2017 الى 6,5 مليارات دولار عام 2018، جعل المصارف عاجزة عن تمويل القطاعين. وتمّ تمويل القطاع العام، وتجميد تمويل القطاع الخاص.

 

اليوم، ومع صدور أرقام نموّ الودائع في الفصل الاول من عام 2019، يتبيّن أنّ النموَّ انعدم، بل تحوّل سلبياً، وقد انخفض حجم الودائع بالدولار والليرة بنسبة 1,1%. وهذا يعني أنّ قدرة المصارف على التمويل انعدمت استناداً الى نموّ الودائع، وصارت هذه القدرة محصورة بالاحتياطي القائم من السنوات الماضية.

 

هذا المؤشر، يكفي لوحده في الوضع المالي والاقتصادي اللبناني للاستنتاج أن لا مبالغة في وضع موازنة 2019 في خانة موازنة الإنقاذ، قبل أن تكون موازنة إصلاح وتقشّف واسترداد أموال.

 

وهذا يعني أنّ المطلوب إجراءات استثنائية للحؤول دون الغرق، بانتظار أن تأتي مفاعيل الإصلاح والتقشّف الموزون، واسترداد الاموال اذا كان ذلك ممكناً في المستقبل، في حال تغيّرت الطبقة السياسية، وهذا أمر مستبعد طبعاً.

 

وفي حالات الإنقاذ السريع، ينبغي أن تتزامن إجراءات التقشّف القاسي مع خطوات التحفيز المالي، من خلال ضخّ الأموال في الدورة الاقتصادية. وقد أظهرت التجارب انّ الذهاب الى التقشّف السريع، من دون تأمين ضخّ الأموال يؤدّي الى انكماش (deflation)، لا يقلّ خطورةً وضرراً عن التضخّم (inflation).

 

وفي الوضع اللبناني لن تكون اموال «سيدر» كافية لتغطية هذه الثغرة، وبالتالي، ينبغي التفكير في خطوات رديفة تؤمّن ضخَّ الأموال في موازاة خفض الإنفاق، لئلّا ندخل في نفق الانكماش المميت. وإذا كنا نميل الى مقارنة الحالة اللبنانية بالحالة اليونانية، يجب أن نلاحظ أنّ عملية إنقاذ اليونان استندت الى مدماكين:

 

-1 تقشّف صارم وسريع لخفض الإنفاق الحكومي بنسب مرتفعة أوجعت اليونانيين كثيراً.

 

-2 تدفّق مالي سخي وصل الى حوالى 130 مليار دولار في 3 سنوات أمّنها الاتحاد الاوروبي.

 

في الموازنة التي تتمّ مناقشتها للعام 2019، القدرة على التقشّف القاسي بنسب مرتفعة غير موجودة. والدفق المالي المطلوب لمواكبة التقشّف غير متوفّر بالنسب الكافية، إذا ما اعتبرنا انّ اموال «سيدر» ستتدفّق فعلاً بمعدل مليارَي دولار في السنة. لذلك، المعضلة قائمة، وينبغي أن تتمّ مقاربة الموضوع بذهنية جديدة على المستويين السياسي والشعبي.