IMLebanon

كلام في الموازنة

ليس من باب الصدفة أن يمرّ على لبنان أكثر من عشر سنوات من دون إقرار موازنة عامة من قبل المجلس النيابي، ولا يكفي تحميل الخلاف المستحكم الذي كان قائماً بين الفرقاء على عملية قطع الحساب المسؤولية عن هذا الامر.

فهذا التقاعس عائد الى أمرين أساسيّين، الأول هو شدّ الحبال السياسي والمالي الذي ساد الساحة اللبنانية منذ العام 2005، فالموازنة ليست كما يتصوّر البعض لعبة أرقام وحسابات فحسب، وإنما هي مرتبطة ارتباطاً كبيراً بالسياسة العامة كونها تؤكّد قيام الدولة المستقلة والمستقرة المحكومة بالقوانين، والتي اعتادت احترام الدستور الذي عادة ما يفرد نصاً خاصاً عن الموازنة في تعبير واضح على كون الاخيرة أعلى من القوانين العادية.

أما السبب الثاني فهو التهرّب من إقرار موازنة تُكبّل القوى السياسية وتمنعها من التصرّف بالاموال العامة وفقاً لأهوائها ومن دون حسيب أو رقيب.

من هنا كان التطوّر الأبرز اليوم في مهب الجدال السياسي والوطني والاداري الذي تشهده الساحة اللبنانية حول إقرار قانون جديد للانتخابات، هو الكشف عن مشروع الموازنة العامة الجديدة وعرضها على مجلس الوزراء لإقرارها قبل رفعها الى المجلس النيابي الذي له كلمة الفصل في إصدارها.

وعلى الرغم من إيجابية وأهمية هذه الخطوة خصوصاً في حال استكمال كلّ إجراءاتها وصولاً إلى إقرارها في المجلس النيابي، إلّا أنّ الملاحظات عليها تبقى كثيرة ومتشعّبة…

فبعد هذا الغياب المتمادي رفعت الى مقام مجلس الوزراء موازنة عادية تقليديّة تأخذ من جيوب الفقراء لتغطّي ديون الأغنياء أو بمعنى آخر موازنة لا شيء جديداً فيها، لا روح يمكن أن تنبعث منها كما لا فكرة جديدة تفوح من ثناياها…

وكأنّ واضعي هذه الموازنة اكتفوا بتركيب وترتيب أرقامها في محاولة إيجاد مداخيل جديدة وإنما بالطرق البدائية التقليدية، وذلك بهدف القول اللهم إنني أتمَمت مهامي.

وفي هذا الإطار، لستُ أدري لماذا لا تأخذ عملية إقرار الموازنات في لبنان الحجم الذي تستحقّه، كحالة إقرار قانون جديد للانتخابات مثلاً، وأظنّ أنّ الامر عائد الى كوننا شعباً مسيّساً، بالمعنى التقليدي للكلمة…

وتعلّمنا أنّ الأرقام هي ملك للدولة تتصرّف بها كما تشاء ومن دون حسيب أو رقيب، وربما ايضاً لغياب مجتمع أهلي يجيد الضغط على واضعيها…

وأعني بالمجتمع المدني الجامعات، خصوصاً تلك التي تملك مراكز أبحاث جدّية، والتي عليها أن تساهم في تحديث الموازنة عبر طرح رزمة من الأفكار الجديدة التي تستطيع أن تؤمّن أكبر مداخيل من دون أن يؤدي ذلك الى انكماش في السوق والى إفراغ جيوب الطبقات العاملة، وأعني بالمناقشة بحثاً جدّياً علميّاً وعميقاً في كلّ المعطيات المالية والنقدية لا مجرّد الاكتفاء ببعض أعمال الروتشة…

وأعني أيضاً بالمجتمع المدني الأحزاب التي في السلطة او تلك التي أُقصيت عن جنّتها والتي من المفترض أن تقترح قانوناً للموازنة كما تفعل مع غيره من القوانين وأن تشكّل لجاناً حزبية على تماس مباشر مع الشأن العام بكلّ تفاصيله وحساباته…

وأعني به أيضاً المنظمات غير الحكومية خصوصاً تلك التي تُعنى بمحاربة الفساد فعلاً لا قولاً والتي من واجبها أن تقترح أشكالاً جديدة لمشاريع موازنات حديثة ومبتكرة.

حسناً فعلت وزارة المالية بطرحها مشروع موازنة قيد النقاش، وإنما للخروج من تلك المشاريع المعلوكة يقتضي أن نقتنع بأنّ المال العام المصروف هو بالأساس ملك لنا ولا ينبغي فقط أن نراقب إنفاقه وإنما أيضاً أن نقترح كيفية هذا الإنفاق وأسس الجباية الصحّية لكي لا يستمرّ الهدر وازدياد العجز.