IMLebanon

عالم التوازنات والتجاذبات اللامتناهية

عرفَ العالم مع النظام العولمي مساراتٍ مُتطوّرة سريعة ومُتغيّرة، خصوصاً أنّ الحدود حطّمتها تداخلات المصالح للقوى السياسية والاقتصادية. عالمُ اليوم بات محكوماً باللاقانون، وانتشار الفوضى التي ساهمت في قلب الموازين، وأدخلت مفاهيم جديدة ميّزَت سياساتنا اليوم، وجعلت موازين القوى مختلفة ولا ترتبط بنمط مُحدّد.

صحيحٌ أنّ التغيّرات طالت العالم على مختلف صُعدِه، فالأحداث التي عرفَتها السنوات الأخيرة توضح أكثر الرؤية السياسية لخريطة العالم الجديد، تلك التي أعيدَ رسمُها من مجموعة القوى التي تفرض واقعَها على أكثرِ من مكانٍ في العالم.

منذ الحرب العالمية الأولى والقوى الفاعلة فيها استطاعت فرضَ مشروعها الاستعماري على العالم. لقد بُنيَت السياسة العالمية على مبدأ القوى والهيمنة، بعيدةً من التفاهم والحوار. وهذا ما يؤكّد أنّ مسار البشَر يُحدَّد عبر القوى، وأنّ التوازنات تَحكمها التوجّهات السلطوية للشعوب.

إنّ صعود الدول التي اعتبرَتها الولايات المتحدة «دولاً مارقة»، أحدثَ تغييراً مباشراً لواقع اللعبة الدولية.

فالولايات المتحدة الأميركية والغرب باتا على يقين بأنّ عالمَنا اليوم تسوده توازنات جديدة لا تصلح لتحقيق مصالحهما كما في السابق. فالتصرّف المتزمّت للقوى الغربية، وفرضُها لمنطق القوّة على منطق التفاهم، شكّلا صدمةً انقلابية عند تلك الدول ودفعَ بها لبناء عالم جديد على أساس توازنات تَحكمها تجاذبات بين القوى الفاعلة لتحديد المصالح ورسمِ السياسات المستقبلية للعالم.

بَنت الولايات المتحدة والغرب تحالفَهما مع الدول الأخرى على أساس الانجرار التامّ لشروطهما، وليس على أساس الأخذ بالرأي والتشاور. بينما كان مبدأ القهر والإذلال يفرض ذاتَه على الدول التي اعتبرتها عدوّةً لها.

هذا الواقع الذي لعبَته الدول الغربية في تحكّمها بمصير العالم، أوجَد توازنات جديدة، وأدخَلها في تجاذبات لامتناهية مع أطراف ساهمت بما تمتلك من قوّة للدفع بها إلى تسجيل موقف لها على الساحة الدولية، وعلى سبيل المثال:

– أمام واقع الهزيمة والتفتّت للاتحاد السوفياتي، لجَأ الرئيس بوريس يلتسين عام 1992 إلى فرض السياسة التقاربية من الغرب، ما أفقدَ روسيا العديدَ من القضايا الدولية.

إلّا أنّ تدارُكَ الساسة الروس للموقف وإعادة تقويمه بعد فشَلهم في إقامة علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وفقدانِهم للدور الذي كان يتمتّع به الاتحاد السوفياتي على الصعيد الدولي، جَعلهم يعيدون ترتيبَ أولوياتهم وصياغة استراتيجياتهم وفقَ مصالحهم تجاه قضايا الشرق الأوسط.

هذا الواقع، دفعَ بفلاديمير جيرنومسكي مؤسّس الحزب الديموقراطي عام 1993 للدعوة إلى إحياء «الإمبراطورية السوفياتية». كما طالبَ الرئيس فلاديمير بوتين الولايات المتحدة الأميركية بأن تعامل روسيا باحترام وإنهاء انفراد التحكّم الأميركي.

– في المقلب الآخر: شكّلت كوريا الشمالية حالةً انفردَت فيها عن الدول الأخرى. فلطالما أعربَ زعيمُها كيم وبلهجة تحملُ الكثيرَ من التهديد «عن مقدرةِ بلده على سحقِ أيّ جيش سيشكّل خطراً على كيانها». وما يزيد من حال التوتّر تلك المناورات العسكرية التي تَشهدها أخيراً كوريا الجنوبية والولايات المتحدة على الحدود مع جارتها اللدودة.

– إيران وبرامجها النووية، وما أظهرَته في مدى القدرات الصاروخية للجمهورية الإسلامية، وتشَكّك في إجرائها أكثر من تجربة ردّت عليها إسرائيل أمس بالكشف عن طائرة تجسّس وصَفتها بأنّها متطوّرة وتَستهدف إيران وتطلِق عليها Gulfstream (وهج الخليج).

وقال التلفزيون الإيراني «في اليوم الثالث من مناورات الرسول الأعظم، كانت أهمّ الأحداث إطلاق صواريخ بر ـ بحر وأرض ـ أرض وبحر ـ جو» أطلقَتها القوات البحرية التابعة للحرس الثوري.

هذا ما دفعَ بالبحرية الأميركية لتنفيذ مناورات عسكرية في الخليج، هي الأكبر منذ غزو العراق عام 2003، بمشاركة العديد من القطع البحرية، فيما قد يُعتبر استعراضاً للقوّة على مرمى حجر من الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسط أجواء من التوتّر تشوب العلاقات.

إنّ ربطَ النظام الجديد بمفهوم العولمة، حيث تداخَلت المصالح فباتَت الحروب تحلّ الأزمات، جعلَ القوى المتصارعة اليوم تمتلك من القوى والنفوذ الإقليمي والدولي، ما يخوّلها ضربَ قرارات الأمم المتحدة أو الدول النافذة بعرضِ الحائط دون اكتراث لما سيَحدث.

أخيراً، إنّ الخريطة السياسية الجديدة لم تعُد تطلَق من دوائر القرار في الولايات المتحدة الأميركية. فخريطة «الشرق الأوسط الجديد» وسياسة «محاربة الإرهاب» وغيرها من السياسات التي تمَّ إطلاقها على أكثر من مسؤول في الولايات المتحدة الأميركية يبدو أنّها تتعثّر أمام مجموعة من الأحداث في العالم.