في زوايا التاريخ الغامضة، يلوح كتاب غريب أثار جدلاً منذ ظهوره، نُسب أولاً إلى الصحافي البريطاني «جون ريتكلف»، وادّعى أنه ترجمة لوثيقة سرية تعود لما يُسمّى بـ«حكماء صهيون»، تتضمن 24 بروتوكولاً ترسم خريطة السيطرة على العالم. رغم أن الباحثين في الأكاديميات الغربية والشرقية انقسموا حيال صحته، إلّا أن أحداً لم يستطع تجاهل تطابق الكثير مما ورد فيه مع ما شهدته البشرية منذ مطلع القرن العشرين حتى يومنا هذا، لا سيما في الشرق الأوسط الذي تحوّل إلى مختبر دائم اللهيمنة، وحقول تجارب لنظريات الخراب.
المثير أن هذه البروتوكولات لا تخجل من طرحها المكشوف لمسارات السيطرة: تبدأ من نشر الفوضى والترويج للتحررية المطلقة، مروراً بتفريغ الدين من مضمونه، واحتلال الإعلام، وإغراق الدول بالديون، وانتهاءً بإقامة مملكة لا تُحكم باسم الدين علناً، بل تُدار باسمه من خلف الستار. وبينما انشغل العالم بالتحقق من مصدر الوثيقة، كانت الأحداث تتوالى وكأن النص بات خريطة عمل سياسية وإعلامية واقتصادية.
كتب إدوارد سعيد يوماً أن «الاستشراق ليس مجرد نظرة ثقافية بل هو مشروع استعماري». ومن يقرأ البروتوكولات بعين ناقدة، يدرك كيف تحوّل هذا المشروع إلى شبكة مترابطة من المصالح، تستخدم الإعلام لتطويع الرأي العام، والتعليم لإفراغ الأجيال من هوياتها، والسياسة لتحريك الدول كبيادق على رقعة شطرنج. وكأن سُطور البروتوكولات كُتبت لتصبح دليل عمل لما سيُعرف لاحقاً بـ«الشرق الأوسط الجديد».
الباحث الفرنسي روجيه غارودي، حين واجه العقل الغربي بجرأة، تحدّث بصراحة عن التقاطع بين الصهيونية العالمية والماسونية، واستحضَر إشارات عدّة وردت في البروتوكولات حول «تفكيك الأديان من داخلها»، و«إضعاف القيم الجماعية للمجتمعات الشرقية» وصولاً إلى تحويل الدول إلى كيانات استهلاكية مفككة. وفي مقال شهير للصحافي الأميركي جاك شير، نُشر في السبعينات، أُشير بوضوح إلى «بنية خفية تتحكّم بالإعلام الغربي» وأنها «تسير ضمن جدول أعمال لا علاقة له بحرية التعبير بل بحرية التوجيه».
وإذا كانت هذه الرؤى قُوبلت حينها بالاستخفاف، فإن وعد بلفور الذي بدا مستحيلاً في زمنه، بات واقعاً ساطعاً بعد مئة عام. أما سايكس بيكو، فلم تكن مجرد اتفاقية لتقسيم جغرافي بل كانت تقسيماً معرفياً ونفسياً بين شعوب المنطقة، أُسّس على أنقاضه وعي مشتّت لا يعرف من العدو ومن الصديق. وها هو المشهد اليوم يُظهر تشظّياً غير مسبوق: من الخليج إلى بلاد الشام، من اليمن إلى لبنان، مشهد تتداخل فيه خيوط التطبيع، والانهيارات الاقتصادية، وإعادة تعريف الهوية والعدو، ضمن خارطة تتماهى، عن قصد أو عن غير قصد، مع ما طُرح في البروتوكولات قبل أكثر من قرن.
في عام 2006، أعلن نائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني أن «الفوضى الخلّاقة هي الوسيلة الأنجع لإعادة تشكيل المنطقة». هذه العبارة وحدها قد تُغني عن أي تعليق، إذ تعيدنا إلى البروتوكول الأول الذي يعتبر الفوضى والثورات المفتوحة المدخل الرئيسي اللهيمنة. أما السيطرة على الإعلام، فحدّث ولا حرج: حملات منظمة، إغراق المحتوى، تحالفات بين رأس المال والمنصات، تفتيت الحقيقة وتشتيت الانتباه.
كل ذلك لا يعني بالضرورة أنّ العالم يُدار من قبل طاولة خفية كما يروّج البعض، ولا يعني أن الوثيقة بحد ذاتها حقيقة مطلقة. لكن تجاهل التطابق بين مضامينها وبين ما يجري على الأرض بات نوعاً من السذاجة. فالشرق الأوسط لم يعد مجرد جغرافيا مشتعلة؛ بل تحوّل إلى حالة دائمة من التوتّر المُخطّط، تشارك فيها دول وتيارات وأجهزة، تطبّق الخطط ذاتها حتى وإن اختلفت الرايات.
ومع تكرار مشاهد التفاوض بين العرب وإسرائيل، وزيارة الوفود المتبادلة، وإعادة صياغة العلاقات مع إيران، وتمرير الاتفاقيات من القاهرة إلى الخليج، لا يبدو غريباً أن نشعر بأن شيئاً ما يُدار بعناية منذ زمن بعيد. وما كان يُسمّى «نظرية مؤامرة» بات في كثير من جوانبه «واقعاً سياسياً». والمؤلم أن أدوات تنفيذ هذا المشروع لم تعد أجنبية بالكامل، بل باتت محلية، تتحدّث لغتنا، وتعرف نقاط ضعفنا، وتُجيد تبرير الخطأ بالواقعية، والانهيار بالضرورة.
إن كان الكتاب مختلقاً، فهناك مَن طبّقه بحذافيره. وإن كان حقيقياً، فالتاريخ حافل بالشواهد. وفي الحالتين، النتيجة واحدة: شرق أوسط يُعاد رسمه على نار هادئة، بأدوات ناعمة وقاسية في آن. شرق أوسط لم يعد فيه مكانٌ للسذج، ولا وقتٌ للغفلة.