IMLebanon

عهدُك عهدُ التغييرِ والإصلاحِ يُدعى…

 

كيف للعهدِ أنْ يقومَ بجَردةٍ لسنتِه الأولى فيما هو ذاتُهُ يُعلن أنَّ هذه الحكومةَ ليست حكومتَه الأولى؟ وماذا عن الثلاثينَ وزيراً؟ هل حُبِل بهم «بلا دَنس»؟ وماذا عن القراراتِ والتشكيلاتِ والتعييناتِ؟ أَأُنزِلَت مع «الوصايا العَشِر»؟ أنحن في عهدٍ من دونِ حكومةٍ وفي حكومةٍ من دونِ عهد؟ أليس النُكرانُ المتبادَلُ دليلَ خجلٍ من غَلَّةِ السنةِ؟

سِمةُ العهدِ، في سنتِه الأولى، الازدواجيّةُ: ازدواجيّةٌ بين الانجازاتِ والاخفاقات، ازدواجيّةٌ بين رئاسةِ الجمهوريّةِ والتيّار الوطنيّ الحرّ، ازدواجيّةٌ بين الرئيسِ وصِهرِه، ازدواجيّةٌ بين الجيشِ وحزبِ الله، ازدواجيّةٌ بين الدستورِ والتسويات، ازدواجيّةٌ بين شِعارِ النزاهةِ وواقِعِ الفساد، وازدواجيّةٌ بين الرئيسِ القوي والرئاسةِ الضعيفة.

كلُّ هذه الازدواجيّات ألْقت بثقلِها على الجنرال الثمانينيِّ، فلم يَبْدُ ضعيفاً ولا قوياً، بل مُتعباً، ومع ذلك، نجح في الحفاظ على ما بقي من صلاحيّات رئاسيّة.

كان بمقدورِ هذا العهدِ أن يتميّزَ لو تحوّلت التسويةُ التي أتَت به مشروعَ إصلاحٍ دستوريّ، أو على الأقلّ مشروعَ حكمٍ وطنيّ. فالعهدُ انطلَق من قاعدةِ تحالفاتٍ واسعةٍ.

في مسيرتِه نحو الرئاسةِ، نَجح الجنرال عون في إرساءِ تحالفٍ مسيحيٍّ/شيعيّ (مع حزبِ الله) ومسيحيٍّ/سنّي (مع تيّارِ المستقبل) ومسيحيٍّ/مسيحيّ (مع القوّات اللبنانيّة)، وتفاهمٍ مع المكوِّنِ الدُرزيِّ بكلِّ أطيافِه. وانسحَب هذا الواقعُ اللبنانيُّ شبهُ الشامِل على الواقعِ الإقليميِّ والدوليّ، فنعِمَ العهدُ بدعمٍ سوريّ/إيرانيّ وتسليمٍ خليجيّ وتَيْسيرٍ أوروبيّ وتسهيلٍ أميركيّ.

لقاءُ الأضدادِ حولَ انتخابِ الرئيسِ عون لم يتحوّلْ لقاءً حولَ العهدِ وفي ما بينَهم، ففَقد العهدُ قدرتَه التوفيقيّةَ بين حلفائِه مع أنَّهم اشتركوا في حكومةٍ واحدةٍ لقطفِ منافعِ الانتخاب. اعتَبر حلفاءُ الرئيس عون أنَّ تصويتَهم له يُغني عن دعمِهم إيّاه، فأصبحت للعهدِ تحالفاتٌ من دونِ حلفاء.

أتت مشاكلُ العهدِ الحقيقيّةُ من حلفائِه الّذين حَمَّلوه أكثرَ من طاقتِه. فالدولةُ، بدستورِها وتقاليدِها وميثاقيّتِها، لا تَتحمّلُ نهجَ المحاورِ، وبخاصةٍ المحورُ السوريّ/الإيرانيّ وصراعاتُه اللبنانيّةُ والعربيّة والدوليّة. هذا محورٌ مناقضٌ لفلسفةِ الوجودِ اللبنانيِّ وصيغتِه.

ومأزَقُ العهدِ أنْ كلّما تجاوبَ مع هذا المِحور عُزلَ وكلّما تميّز عنه حُوصِر. فظنَّ الرئيسُ أن اعتمادَ خِطابين هو الحلُّ: خِطابٌ للشرعيّةِ منسجِمٌ مع الدستور، وآخَرُ للسلاحِ غيرِ الشرعيِّ مضادٌ للدستور، فإِذا بالأخير يبتَلعُ الأوّلَ.

أدّت هذه التناقضاتُ إلى سقوطِ مفهومِ الرئيس القويّ وإلى فوضى غيرِ بنّاءةٍ أفْقدت العهدَ زَخمَه وهيبتَه وتوازنَه واستقرارَه. وأصلاً، إنَّ المسارَ الذي أوصلَ عون إلى الرئاسةِ سورياليٌّ: فريقٌ أراد أن يُورِثَه مشاكلَه (حزبُ الله) وثانٍ أراد أن يَرِثَ شعبيّتَه (القوّاتُ اللبنانية)، وثالثٌ أراد أن يعوّضَ عما وَرِثه وأضاعَه (تيّار المستقبل).

وحين يَكثُر أطرافُ الميراثِ يتعقَّدُ «حَصرُ الإرث». هكذا، تبيّن وجودُ اتفاقٍ سياسيٍّ بين التيّار الوطنيّ وحزبِ الله من دون مشروعٍ وطني، وصفقةِ مصالح بين التيّار والمستقبل من دون برنامجٍ سياسيٍّ، ومصالحةٍ وطنيّةٍ بين التيّارِ والقوّاتِ اللبنانيّة من دونِ تحالفٍ انتخابيّ.

هذا الالتباسُ القائمُ عن سابقِ تصوّرٍ، تَضاعف مع تصميمِ بعضِ أركان العهدِ على «الحُكمِ المنفَرِد». صانَ العهدُ تحالفَه مع حزبِ الله وأغْفلَ تحالفاتِه الأخرى، فشعَر الآخَرون بالغُبن، إذ لم يَتعاط معهم كشركاءَ ولم يَحفَظ لهم «عائداتِهم». تَرك لهم الفُتاتَ «جبرانَ خاطرٍ»، فأَخذَ على خاطرِهم بعد فواتِ الأوان وامتَعضوا.

لم يسمح الواقع الطائفي للرئيسُ عون بإعادةِ الرئاسةِ إلى ما قبلَ الطائف، وتعذّر عليه الحكمُ بدستورِ الطائف؛ فبدا رئيساً على خطِّ تَماسٍ دستوريٍّ فأصابه القنصُ من جميعِ الجِهات. وعِوضَ أن تكونَ إنجازاتُ العهدِ رمزَ نجاحِه، تَحوَّلت رمزَ فشلِ الحكومة.

صحيحٌ أنَّ الحكومةَ، بِحَثٍّ من الرئيسِ عون، أقرّت أموراً هامّة كانت نائمةً في الأدراج، لكنَّ ما قرَّرته جاء هجيناً، مليئاً بالنواقص، خاضعاً للمحاصَصةِ والاستئثارِ والمحسوبيّة، ودونَ مستوى الحياديّةِ والكفاءةِ والأهليّةِ والتوازن: من توزيعِ الوحَداتِ النَفطية، إلى مسلسلِ الكهرباء، إلى قانونِ الانتخابات، إلى التعييناتِ الإداريّة، إلى التشكيلاتِ الديبلوماسيّة والقضائيّة، إلى لائحةِ الضرائب، إلى تعييناتِ المجلسِ الاقتصاديِّ الاجتماعيّ، وأخيراً إلى الموازنةِ غيرِ الدستوريّة. حَبّذا لو أصَرّت الحكومةُ على سيادةِ الدولةِ بقدْرِ إصرارِها على صفقةِ البواخرِ التركيّة.

إذا كان المسؤولون يَعتبرون هذا الكلامَ مُجحِفاً، فلأنّهم لا يسمعون أنينَ الناسِ، أو لا يَكترِثون له. لا يَطلُب الشعبُ من رئيسٍ ضعيفٍ ما يَطلُبه من رئيسٍ قويٍّ. يكتفي الشعبُ بالضعيفِ رئيسَ بلديّةِ لبنان، لكن القويَّ يريدونه رئيسَ جمهوريّةِ لبنان.

والجمهوريّة هي الأمّة والوطنُ والكيانُ والدولةُ؛ وهذه المُقدَّساتُ الوطنيّةُ تعني: احترامَ الدستور، الفصلَ بين السلُطات، إحياءَ المؤسّسات، استنهاضَ الدولة، استعادةَ التوازن الوطنيّ، استرجاعَ الوجهِ الحضاريّ، توفيرَ العدالة، صَونَ الحدود، وَقفَ التهميشِ والهيمنة، انتزاعَ القرارِ الوطنيِّ الواحد، حَصرَ السلاحِ بالشرعيّة.

أين نحن من هذه البديهيّات الوطنيّة؟ صحيحٌ، أنَّ تحقيقَ هذه القضايا لا يَتمُّ في سنةٍ، لكنَّ مسارَ الدولةِ في اتّجاهٍ معاكِس. لم يُنتخَب الجنرال عون لمَلءِ الشغورِ الرئاسي فقط بل لِمَلءِ الشغورِ الوطنيّ.

لكنَّ أركانَ العهد ـ لا الجنرال عون ـ يتركون انطباعاً بأنَّ هذا العهدَ مُسَوَّدةُ عهدٍ آخَرَ مُقبِل، ويتصرّفون غيرَ مُبالين برأيِّ الشعبِ وبانتقاداتِه وباتّهاماتِه. يَستعجلون ارتكابَ «القبائح» لتروحَ من دربِهم في العهدِ اللاحِق. يُديرون البلادَ كأنَّ العهدَ وكيلُ تَفليسةٍ أو عهدُ تصريفِ أعمال، بل عهدُ تحضيرِ أعمالِ عهدٍ آخَر، فيما الرئيس وَعدَنا بعهدٍ منقذٍ وفاصلٍ بين سلوكٍ وسلوك وزمنٍ وزمن.

لم يَلمُس الشعبُ تغييراً نحو الأفضل. لذا، حريٌّ بالرئيسِ أن يستعيدَ عهدَه من خاطفيه، وأن يَنتفِضَ، قبلَ الشعبِ، على الّذين لَزِقَوا به كما تَلَزَقُ قناديلُ البحرِ بأجسادِ السبّاحين.