عندما كتب زياد الرحباني في آخر سبعينيّات القرنِ الفائت مسرحية ” فيلم اميركي طويل” لم يصدّق كثيرون أنّ الفيلم اللبنانيّ المثقل بالخيباتِ، التفجّراتِ والحروب سيكون أطول من طويل. لكنّ هذا ما حصل! فبعد خمسةٍ وأربعين عاماً على عرض مسرحيّةِ زياد تتأكّد نظريّةُ صاحبِها كلَّ يوم. وها نحن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين ما زلنا في قلب الفيلم، وفي قلب الوجع. وها المنطقةُ تتغيّرُ من حولنا بسرعة فائقةٍ فيما نحن غارقونَ في الإنتظار المزعج، وفيما حكّامُنا غارقونَ في نومهم الثقيل! .. مؤلمٌ الرحيلُ المفاجىء لزياد الرحباني اليوم. صحيحٌ أنّ الرجل أدمَن عزلتَه، حتى صارت جزءاً منه وصار جزءاً منها. لكنّ الناسَ، رغم غيابِه، ظلّت مطمئنةً بأنه موجود، وانه سيخرج من عزلته الطوعيّةِ يوماً ليعود بمسرحيّةٍ أو أغنيةٍ أو ألبومٍ أو برنامج، أو على الأقل بمقابلة. لكنّ زياد خالفَ توقعاتِ الناس وآمالَهم! إذ لم يقدّم من المسرحية المنتظرَة سوى إسدالِ الستارة، ولم يعزُف من الألحان المنتظرة سوى لحنِ الموت! ومع أنّ “الموت حقٌ” كما يقال، فإنّ كثيرينَ رفضوا أن يصدّقوا النبأَ الحزين. وهذا طبيعي. فالرجلُ لم يكن فنّاناً وموسيقياً فقط. بل كان ملهمَ أجيال، ورمزاً للإنسان الرافضِ المتمرّد. وهو لم يكن مجرّدَ حالةٍ ثقافيةٍ – فنية، بل شكّل ظاهرةً إجتماعيةً، إذ كثيراً ما تلتقي بأشخاص يَستشهدون أثناء حديثِهم بمسرحيات زياد أو يقلّدونَه في الكلام والتصرفِ من دون أن يدروا حتى! بهذا المعنى زياد فنانُ الشعب بامتياز. إنه وجدانُهم وضميرُهم وصوتُهم. لذا جاءت كلماتُه قاسيةً إلى حدِّ الفضيحة، ومواقفُه جارحةً إلى حدِّ الوجع. لم يهادن يوماً. فإذا بفنه مرآةٌ للمنسيّين والمهمشين، وصدىَ المعذّبين في الأرض! هكذا، يغيب زياد، والفيلمُ اللبنانيُّ الطويل مستمر، ولا علامةَ في الأفق القريب تُثبت أنّ نهايتَه قريبة. لذا إذا استعرنا كلماتِه وسألنا: “بالنسبة لبكرا شو؟” سيجيئُنا الجوابُ أيضاً، بكلماته وبصوتِه السوداويّ الساخر: “بعدنا طيبين.. قولو الله” !! و”وقولو الله” لتبقى لنا فيرزو التي كُتب لها أن تودّع ولدَين في حياتها. هي الأم الحزينةُ التي تبكي في تسعينها ابناً أعطاها ولادةً فنيةً جديدة بعد غياب الأخوين: عاصي ومنصور…
مقدمة نشرة أخبار الـ”mtv” المسائية ليوم السبت في 26/07/2025