IMLebanon

النازحون السوريون في لبنان: التطبيع ماشي!

syrian-refugees-in-lebanon

 

كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:

في الخارج مؤتمرات فاشلة حول ملف النازحين، وفي الداخل أزمة تكبُر إلى حدّ التهديد بالانفجار. من اسطنبول غداً إلى نيويورك في أيلول، النازحون السوريون بعد الفلسطينيين، يتحوَّلون أمراً واقعاً لبنانياً، حتى بلا سؤال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون عمّا إذا كان يريد إعطاءَهم جنسية البلد المضياف” أم لا.

حاولت ممثّلة الأمين العام للأمم المتحدة في بيروت سيغريد كاغ أن تخفِّف من وقع الأزمة التي أثارَها بان كي مون في مسألة توطين اللاجئين في الدول التي تستضيفهم، ولكن “بدلاً من أن تكحِّلها أعْمَتْها”!

أوضحت كاغ أنّ الأمين العام “ما قالها بالحرف الواحد… لكنّه قصَدَها”! فهو لم يتحدّث عن اللاجئين السوريين في لبنان تحديداً، بل كان يقصد جميعَ اللاجئين في كلّ دول العالم، وطبعاً لبنان واحد منها.

إلّا أنّ الناطق باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك قرأ الفقرة 86، الحسّاسة، من التقرير: “ينبغي أن تمنح الدول المضيفة للاجئين وضعاً قانونياً وأن تدرس أين ومتى وكيف تتيح لهم الفرصة ليصبحوا مواطنين بالتجنّس”. واعترف بأنّ “هذا الأمر يتماشى مع الفقرة 34 من معاهدة اللاجئين للعام 1951”.

لكن، وفيما “التنظير ماشي” في ملفّ النازحين، في الأروقة الدولية، فإنّ هؤلاء يطبِّعون أمورَهم تماماً ويكتسحون سوقَ العمل في لبنان، بنحو متصاعد. ولا أحد من الحريصين على حقوق الشعوب في العالم يهتمّ بالتداعيات التي يمكن أن تصيب بلد الـ 10452 كلم2 والـ 4.5 ملايين نسمة.

في معزل عن جدّية بان كي مون في “التبرّع” بجنسية البلد المضياف للنازحين، هناك مَن يعتقد أنّ “التطبيع” هو المدخل إلى “التوطين”.

والتطبيع يتحقَّق يوماً بعد يوم في لبنان، حيث تَصرف مؤسّسات عمّالَها اللبنانيين لتشغيل سوريين برواتب أدنى. وهذه الأزمة تنمو بتسارُع وتؤدّي إلى ارتفاع بطالة اللبنانيين من 11 في المئة إلى 25 في المئة مذ بدأت الحرب في سوريا. أمّا الخرّيجون في لبنان فيبلغ عددهم الـ 16 ألفاً سنوياً، فيما لا تتجاوز حاجة السوق ربعَ هؤلاء، ويختار الباقون: “إمّا البطالة وإمّا الهجرة”.

ويورِد أحد الصناعيين اللبنانيين نموذجاً لِما يجري في هذا المجال، ويروي الوقائع الآتية: في إحدى المناطق الصناعية المجاورة لبيروت، هناك معامل صغيرة عدة تضمّ بمجملها 64 عاملاً. وقبل انلاع الحرب السورية في 2011، كانت جنسيات هؤلاء موزّعة كالآتي: 42 لبنانياً، 11 سورياً، 5 مصريين، عراقيّان وهنديان وسريلانكيان.

ومع نموّ موجات النزوح من سوريا، تبدَّلت النسَب. وباتت الجنسيات كالآتي: 26 سوريّاً، 21 لبنانياً، 6 عراقيين، 5 مصريين، فلسطينيان، هنديان وسريلانكيان. أي، هناك تراجُعٌ في عدد العمّال اللبنانيين إلى حدود 50 في المئة، ونموّ عدد العمّال السوريين بنسبة 125 في المئة، وازدياد عدد العمّال العراقيين، ودخول فلسطينيين السوق.

وقبل أسابيع، تبيَّن أنّ أحد السوريين طوَّر عمله في المحلّة وفتحَ معملاً يتعاطى الحدادة، فيما آخرون من مواطنيه يستعدّون لفتحِ معامل تتعاطى النجارة والدهانات. وغالبية العمّال الذين يعملون في “المعامل السورية” على أرض لبنان هم سوريّون.

وقبل أيام، شاهدَ اللبنانيون أهلَ الحيّ المجاور “معلّم الحدادة” السوري وهو يأتي ليسكنَ منزلاً غادرَه أهله اللبنانيون في حرب تمّوز 2006 وهاجروا إلى كندا.

وقد عمدَ إلى ترتيب الحديقة وزرعِها بأنواع الأشجار المثمرة، أي تلك التي يتوقع أن يبدأ بقطف ثمارها بعد خمس سنوات وأكثر!

وهذا النموذج الذي يتحدّث عنه هذا الصناعي اللبناني يتفاقم. فالسوريون الموجودون في لبنان، تحت عناوين النازحين في معظم الأحيان، يضاربون بخدماتهم الزهيدةِ الأسعار على العمّال اللبنانيين وذوي المهارات. فاليد العاملة اللبنانية لا تستطيع “النزول” إلى مستوى هذه الأسعار لأنّ أكلاف معيشة اللبنانيين مرتفعة.

وقد امتدّت اليد العاملة السوريّة لتشمل قطاعات الهندسة وإدارة الأعمال والطبّ، وهي إلى توسُّع. ومِن المثير أنّ الوافدين تحت عنوان “نازحين” يحظون باهتمام المفوّضية العليا ويتلقّون مساعداتها. ويقال إنّ منهم من يحلّ ضيفاً كلّ شهرٍ ليتلقّى المساعدات المخصّصة له، ثمّ يختار العودة ساعة يشاء.

وفيما النموّ في الاقتصاد اللبناني لن يتجاوز الـ 1.5 في المئة هذه السنة، ومع ارتفاع مستمرّ في عجز الماليّة العام من 7.1 في المئة الى 9,1 في المئة في 2015، وارتفاع الدين العام إلى حدود 73 مليار دولار، ارتفعَ عدد المهاجرين اللبنانيين إلى نحو 346 ألفاً وفقَ أرقام وزارة العمل، وهو أكبر من ذلك على الأرجح. وأصبحت نسبة البطالة بين الشباب في حدود 36 في المئة.

فلبنان الصغير يستقبل وحده أكثرَ مِن ثلث الذين خرجوا من سوريا، أي أكثر من مليون لاجئ سوري مسجّل، وأكثر من 600 ألف غير مسجّل، نصفُهم دخلوا سوقَ العمل اللبنانية، ما ساهمَ أيضاً في ارتفاع عدد اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى أكثر من مليون و170 ألف نسمة.

وتزايدَت الشكاوى الواردة إلى وزارة العمل من عمّال لبنانيين يُطرَدون من وظائفهم، ومِن النقابات العمّالية المختلفة التي تشكو استباحة سوق العمل اللبنانية. وازداد عدد الشباب اللبنانيين العاطلين عن العمل إلى ما يفوق نصفَ المليون بسبب الضغوط الناتجة عن تدفّق النازحين.

وليس في استطاعة القانون اللبناني الخاص بتنظيم العمالة الأجنبية أن يلبّي الحاجات الطارئة والوقوف سدّاً منيعاً في وجه هذه العملية، لأنّه قائمٌ على مرسوم “تنظيم عمل الأجانب” الصادر عام 1964، والذي تمّ تعديله. والمأزق الأساسي في التطبيق هو أنّ غزارة التدفّق لا يمكن كبحُها، خصوصاً في ظلّ عدد المفتشين المحدود في وزارة العمل.

ويضاعف الأزمة أنّ العمّال السوريين يدخلون لبنان تحت عنوان “نازحين” في غالب الأحيان، ما يخلق التباساً بين الصفتين. ولم تنجح إلّا جزئياً محاولات لبنان تنفيذَ القانون الذي يفرض على العمّال الأجانب الاستحصال على الموافقة المسبَقة وإجازة العمل.

وهكذا، وفيما الضجّة مثارة حول تطبيع وجود النازحين في لبنان، واحتمال منحِهم الجنسية اللبنانية في لحظة معيّنة، فإنّ مشروع التطبيع يَسلك طريقَه إلى التنفيذ بلا استئذان أحد، مِن خلال اجتياح “النازحين” سوقَ العمل اللبنانية.

وصحيح أنّ العمالة السورية في لبنان تاريخية، وهي ساهمت على مدى عشرات السنين، في تحريك الاقتصاد اللبناني، خصوصاً في مجال التطوير العقاري، لكن ما هو صحيح أيضاً أنّ هذه العمالة بدأت تدكّ مقوّمات الاقتصاد اللبناني يوماً بعد يوم، بسبب منافستها الشرسة لليد العاملة اللبنانية.

وغداً، في اسطنبول، سيَرفع رئيس الحكومة تمّام سلام الصوت طالباً دعمَ المجتمع الدولي لتحصين لبنان في وجه أزمة النزوح، مثلما رفعَ الصوت في مؤتمرات سابقة. وستكون المسألة محصورة بين خيارَين: هل يتلقّى لبنان حفنةً من الدولارات أم لا؟ وفي أيلول أيضاً، ستتكرّر المعزوفة إيّاها، وستتكرّر دائماً في مؤتمرات أخرى لاحقة.

لكنّ أزمة الدعم المالي تبدو جزءاً هامشياً، بل تافهاً، ولا تعالج شيئاً في جوهر أزمة النزوح، لأنّ المأزق الحقيقي هو في ما تكتسيه هذه الأزمة من مخاطر كيانية على لبنان، وليس فقط في إمكانات التمويل.

قد تحلّ المساعدات المالية بعضَ أزمات المسؤولين الذين يُحال إليهم أمرُ الصرفِ والتوزيع على النازحين، لكنّها بالتأكيد لا تقدّم حلولاً لمعضلة ذات طبيعة كيانية.