IMLebanon

الإرهاب بين الذهاب لـ”الجهاد” والإياب إلى حيث انطلق

9881

 

 

 

كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:

 

كثيرة هي التفسيرات التي تُطلق حول مسلسل هجمات القتل الإرهابية التي تلاحقت في الآونة الأخيرة وشملت لبنان وتركيا والأردن والسعودية وقبلها مصر وبلجيكا وبريطانيا، وبالأمس فرنسا مجدداً بعملية أودت بحياة العشرات.

تلك التفسيرات، اختلفت في التقييم والتقدير، فتوزعت بين:

– تفسير أول، يراها نتاجاً طبيعياً لشعور تلك المجموعات بالقوة والقدرة على التحكّم والسيطرة في قلب المجتمعات العربية، وكذلك الغربية التي تحضن جاليات إسلامية متنوّعة من دول شمال افريقيا والمغرب العربي وحتى من شرق المتوسط.

– تفسير ثانٍ، يراها نتاجاً طبيعياً لشعور المجموعات الارهابية بأنّ الحرب الدولية التي تُشنّ عليها، ما هي إلّا حرب وهمية لم تصب منها مقتلاً، او تشكل عاملاً رادعاً لها ومانعاً من تمدّدها خارج الساحة المرسومة لها في سوريا والعراق.

– تفسير ثالث، يقاربها بلغة الاستغلال والاستثمار السياسي للتصويب على خيار مواجهة هذا الارهاب في سوريا والعراق، وتحميل أصحاب هذا الخيار المسؤولية الكاملة عن كلّ موبقات الارهاب وارتكاباته في لبنان وسائر الدول المستهدَفة.
تفسير رابع، معاكس لمنطق الاستغلال والاستثمار، يرى في الهجمات الارهابية تأكيداً على صوابية خيار المواجهة المسبقة والمباشرة للارهاب، وتصديقاً على التحذير الذي سبق وأطلقه منذ سنوات، من الخطر الذي يشكله الإرهاب على كلّ العالم.
قد يصحّ أيّ من تلك التفسيرات، ولكنّ ثمة قواسم مشتركة بين كلّ الهجمات، خلاصتها أنّ هذا العدوّ يتعاظم فعلاً وخطراً وصار “مفلوشاً” وينفّذ جرائمه لا بل مجازره، على امتداد الكرة الارضية.
من هنا، يؤكد باحثون في الفكر الارهابي، أنّ فهم سلوك الجماعات التكفيرية ومخططاتها لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال التعامل معها بالطريقة ذاتها التي يتعامل بها الأطباء، الجراحون أو المختصون بالعلاج الإشعاعي، مع الورم السرطاني، الذي في حال لم يُستأصل بالكامل، ومهما بلغ حجم العلاجات الموضعية، يبقى خطره قائماً، إذ إنه يختار النقاط الأضعف في الجسم ليهاجمها من جديد.
ولعلّ تجربة السنوات الخمس الماضية من عمر الأزمة السورية، وقبلها التجربة العراقية وغيرها، كما يقول الباحثون، تُظهر أنّ التنظيمات الارهابية، حينما تُحاصَر في مكان ما، تسعى إلى البحث عن ثغرات تنفّذ منها عمليات ارهابية، في إطار سلوكياتها العسكرية غير التقليدية، حتى وإن اضطُرت للتضحية بالعشرات من إرهابيّيها.
على أنّ أبرز التجارب في هذا الإطار، يُسجّلها الباحثون في مصر، التي يخوض جيشها معارك شرسة ضدّ تنظيم “ولاية سيناء” التابع لـ”داعش”، إذ كان واضحاً، منذ بدء عملية مكافحة الإرهاب في شبه الجزيرة المصرية، أنّ الفرع المصري لـ”داعش” غالباً ما كان يلجأ إلى عمليات انتحارية، في كلّ مرة كانت قوات الجيش والامن المصري تحاصره في هذه البؤرة أو تلك، حتى إنّ تلك العمليات الانتحارية، التي كانت تستغلّ بدورها، كلّ نقاط الضعف في شمال سيناء، قد بلغت مستوىً خطيراً، وحتى هستيرياً، مع كلّ تقدّم كانت تحرزه القوات المسلحة المصرية في الميدان.
وهذا الأمر، يضيف هؤلاء، ينطبق بشكل يلامس الاستنساخ، على السلوك “الداعشي” الذي هزّ تركيا، وقبلها لبنان في بلدة القاع، فكلّ هذا مرتبط بالتطورات التي شهدتها المعركة مع الجماعات التكفيرية، وعلى رأسها “داعش”، في سوريا حيث كان واضحاً في الايام القليلة الماضية أنّ خناقاً بدأ يفرض على “داعش” في الميدان السوري، وتحديداً في الجبهة الشمالية، سواءٌ في ريف الرقة الشمالي، أو في الريف الجنوبي، أو في الريف الحلبي. بالتوازي مع تحضيرات ميدانية لمعركة حلب واستئناف الغارات الجوّية الروسية في الجبهة الحلبية.
كما هو مرتبط بتطوّرات الميدان العراقي، حيث مُني تنظيم “داعش” بضربة قوية، بعدما استعادت القوات العراقية كامل السيطرة على مدينة الفلوجة، بعد تطهير حيّ الجولان، المعقل الأخير للتكفيريّين في المدينة التي سيطر عليها “داعش” مطلع العام 2014.
ويلفت الباحثون، الى أنه أمام هذا الواقع، لم تجد المجموعات التكفيرية، من “داعش” واخواتها، سوى البحث عن ثغرات يمكن من خلالها تشتيت جهود مكافحة الإرهاب، وإعطاء دفع معنوي لعناصرها، والدخول في اندفاعة ميدانية، تُخفّف الضغط عنها في الميدانين السوري والعراقي، وتحقق لها انتصاراً معنوياً يمكن أن يُبنى عليه، وفي هذا السياق جاء الهجوم الارهابي على بلدة القاع اللبنانية، وبعدها على مطار أتاتورك في اسطنبول. بالأمس في فرنسا، وليس معلوماً في أيّ بقعة سيضرب لاحقاً.
في تقدير الباحثين في الفكر الارهابي، أنّ المشروع الارهابي الذي تمثله “داعش” و”جبهة النصرة” وكلّ أخواتهما يتراجع ويضعف خصوصاً في الميدانين السوري والعراقي، ولقد بات واضحاً لأطراف الصراع جميعاً، وفي المقدمة الغرب، الاوروبي والاميركي، وكذلك للدول الاقليمية أنّ تلك المجموعات الارهابية تحاول الهروب الى الامام وتغطية هذا الضعف والتراجع باعتماد استراتيجية جديدة تندفع من خلالها نحو عمليات إرهابية في الخارج واختيار أهداف خطيرة وحساسة، بعيداً من الميدانين السوري والعراقي، للتأكيد أنّ بنك أهدافها لم ينفّذ بعد. وها هي فرنسا تشكل الساحة المناسبة للعمل الارهابي.
إلّا أنّ أخطر ما يتبدّى في الاستهداف الارهابي لفرنسا، هو تنوّع الاساليب والأدوات بالتدرّج من متفجرات وعبوات وإطلاق نار وأحزمة ناسفة الى شاحنة ودهس، وربما لاحقاً، أساليب أخرى مبتدَعة وغير متوقعة وغير تقليدية، ما يجعل من إمكانية احتوائها أو كبحها أمراً شديد الصعوبة.
في أيّ حال، العالم كلّه مستنفر، والدعوات تتوالى لحرب جدّية على الارهاب واجتثاثه، وهنا يحضر السؤال التالي: هل سيصل الامر أخيراً الى “قرار دولي” بتغيير السياسات، والاستفادة من تجربة السنوات الاخيرة والفشل في ضرب الارهاب وبالتالي الذهاب الى حرب حقيقية على الإرهاب، أم أنّ النمط المتّبع سيبقى على حاله بمواجهةٍ تفتقد الى الجدّية والفاعلية، لا يكون بنتيجتها إلّا تكرار المآسي بجولات قتل جديدة للإرهاب في أيّ مكان في العالم.