IMLebanon

مؤتمر أستانة وغموض السياسة الترامبية

 

كتب أسعد حيدر في صحيفة “المستقبل”:

أخيراً، وبعد خمس سنوات تقريباً من القتال والدمار، ينعقد أول مؤتمر جدّي بشأن سوريا. مؤتمر أستانا خطوة الى الأمام نحو انعقاد مؤتمر على غرار “الطائف” اللبناني، انتظر اللبنانيون خمس سنوات وسط النار لينتقلوا من “لوزان” الى “الطائف”.

السوريون أمامهم مسار طويل أيضاً، خصوصاً أن الحرب عندهم أكثر تعقيداً من الحرب في لبنان. الأطراف الخارجية مشاركة مباشرة أو بالوكالة في الحرب، بينما في لبنان فإن التدخل المباشر مثل الانخراط الروسي والأميركي والتركي والإيراني، بقي غائباً رغم سياسة الدعم والتسليح بحدود.

ارتفاع مستوى الخسائر والتعب لدى كل الأطراف الدولية والإقليمية والسورية، دفع نحو انعقاد مؤتمر “أستانة”. دون ذلك كان استقواء أي طرف يحول دون انعقاده. يوجد كما ثبت حتى الآن “عراب” وحيد للمؤتمر هو “القيصر”. الباقون يشاركون ولو بعد تمنّع، لأن الغياب ممنوع.

“العراب” الروسي، اختار “أستانة” البعيدة والمحاطة بالرقابة الدقيقة منه، حتى لا تكون ممراً ولا مقراً، للإدارات الخارجية والحؤول دون وقوع فشل سياسي ودبلوماسي. لكن ذلك يجب ألا يحول دون التسجيل بأنّ موسكو ما كانت لتسرع بعقد المؤتمر وتعمل لإنجاحه لو لم تشعر بالتعب وباستحالة النصر، والقلق من سياسة دونالد ترامب الذي يصبح رئيساً رسمياً للولايات المتحدة الأميركية الجمعة 20 كانون الثاني الحلي. في أعماق ذاكرة موسكو “الأفغنة” التي دفعت ثمنها غالياً بالانسحاب المهين، وفي الاندفاع بعدها نحو انهيار الاتحاد السوفياتي العزيز حتى الآن على قلب “القيصر” فلاديمير بوتين. ما يعوّض “القيصر” عن الانتصار الكامل أنّه هو الذي يقرر كيف ومتى وبمن ينعقد مؤتمر أستانة. في قلب هذا القرار يكمن تحجيم القوى المشاركة.

إيران التي دفعت الكثير من آمالها وميليشياتها ومن أرواح جنرالاتها، وجدت أنها أمام حائط مسدود وأنّ عليها القبول بالشروط “المسكوبية” حتى تحصل على الحد الأدنى مما كانت تريده عندما انخرطت في الحرب. طهران كانت وما زالت تعمل لبقاء الأسد في السلطة، مسموح لها أن تعمل لذلك تحت “سقف” قرار “القيصر” وليس كما تريد ذلك، فإذا نجحت استراحت وإذا فشلت فإنها تتحمل المسؤولية. طهران لم تكن تريد واشنطن في المؤتمر، حتى لا يقوى الجناح المطالب بالتسوية على حساب الأسد، وأيضاً حتى تؤكد أنها قادرة على تحجيم دورها في المنطقة ثمناً لأي توجه بكسر الاتفاق النووي أو فرض عقوبات جديدة عليها.

طهران قبلت على مضض قرار موسكو بأن تشارك واشنطن في المؤتمر عضواً كامل العضوية، وليس مراقباً بدعوة من الدولة المضيفة. طهران تدرك أن رياح التغيير في واشنطن “تجري بما تشتهيه سفنها”. باراك أوباما قال ما يشبه الاعتذار عن سياسته في سوريا، وجاء خطاب نيكي هالي، مندوبة الادارة الترامبية في الأمم المتحدة، ليصبّ الزيت على النار، إذ أكدت أنّ ما يجري في سوريا “جرائم حرب”، أكثر ما أزعج طهران من موسكو تأكيدها أنّه لولا تدخلها العسكري “لكانت دمشق ومعها النظام قد سقطا خلال ثلاثة أسابيع من تدخلها”. بما يعني أنّ كل الانخراط الايراني كان فاشلاً وسيؤدي الى كارثة لها ولسوريا وللمنطقة وانتصار رهيب لـ”داعش” و”النصرة”.

كل هذا في “كفة” والتحول في العلاقة الروسية ـ التركية في كفّة أخرى. التنسيق والغارات الروسية ـ التركية في “الباب”، يشكلان تحولاً استراتيجياً وتاريخياً، فقد انتقلت العلاقة بين روسيا وتركيا اللتين خاضتا 12 حرباً في ما بينهما، الى الشراكة الكاملة في سوريا، وكأن الحلف الأطلسي غير موجود. موسكو ترى وفق استراتيجية واضحة تحجيم الدور الايراني في سوريا، وتحويل التعاون مع موسكو الى جسر لحل المشاكل في المنطقة.

“القيصر” الذي يستعد للعودة الى ليبيا بقوة وبالتعاون مع الجنرال حفتر، يريد التمدد في المنطقة من سوريا الى ليبيا بعد نزع “الصبار” منها وجعلها أرضاً آمنة لعدة عقود قادمة. التعاون الروسي ـ التركي، يمكن أن يشكل، متى ثبت وتأكد، اختراقاً استراتيجياً للحلف الأطلسي يضعفه ويشجع ترامب على توجيه ضربة قاسية له لتصبح أوروبا وحيدة أمام “القيصر” فتضطر للانكفاء، وهو الى التمدد ولاستعادة موقع الاتحاد السوفياتي بطريقة من الطرق.

ابتداءً من اليوم الجمعة، يمكن البدء بالعد العكسي، للتحولات الحقيقية في العالم، لأن ما بعد أوباما لن يكون كما كان ولا كما سيكون مع ترامب. ربما “العجز” الأوبامي قد ينتهي مع “جنون” ترامب، وربما يقع الأسوأ فيحدث مالا يحسب له حساب، لم يسبق أن واجه العالم غموضاً كما يواجهه اليوم مع رئيس الولايات المتحدة الأميركية. وكما جرت العادة، يجب انتظار مفاجآت الأيام المئة الأولى، حتى يمكن الحديث بواقعية وثبات عن “السياسة الترامبية”.