IMLebanon

المظلّة الدولية باقية وتقييم إيجابي لكلام نصرالله

كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”: 

عندما وقّعت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الإتّفاق النووي مع إيران عام 2015 كان الرأي السائد في الأروقة الديبلوماسية الأميركية أنّ مضمون هذا الاتّفاق هو اكثر بكثير من مجرّدِ اتّفاقٍ تقني، بل هو عبارة عن ورقة استراتيجية تمّ صوغُها بعناية ليمثل في جوهر فلسفته منح إيران موافقة أميركية على دورها الإقليمي المتصاعد والمحوَري كقوة إقليمية أساسية.

وبعد ثلاث سنوات عمد الرئيس دونالد ترامب الى الانسحاب من الاتّفاق والتنصّل منه داعياً الى اتّفاقٍ جديدٍ ما أوحى بسحب القبول الاميركي بالدور الايراني الواسع في المنطقة. وهذا التفسير روّج له المحور المواجه لإيران في المنطقة وفي طليعته دول الخليج العربي والحكومة الاسرائيلية المتوجّسة من تفاقم الحضور الإيراني قرب حدودها.

لكنّ للكواليس الديبلوماسية المعنيّة تفسيراً آخر، فهي ترى أنّ الاتّفاق النووي عندما تمّ إقرارُه كان ينقصه إنجازُ تفاهم جانبي واضح مع طهران حول مدى نفوذها الاقليمي في مقابل التزام إيران بعدد من العناوين العريضة التي تشكّل مصلحة أميركية حيوية في الشرق الاوسط.

ووفق التفسير عينه فإنّ إيران تدرك جيداً أنّ وجودها ودورها هما أساس التوازنات في المنطقة وهو ما لا يتعارض مع المصلحة الاميركية في الشرق الأوسط، لكنّ إيران التي أنجزت معارك ناجحة أدّت الى توسيع نفوذها وتثبيته في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وحتى في أفغانستان، اضافة الى امتلاكها اوراق قوة داخل عدد من بلدان الخليج، ترفض إدخال نفوذها في دائرة التفاهمات مع الأميركيين في اعتبار أنّ هذه الإنجازات جاءت نتيجة جهودها، فلماذا فتحُ أبواب التفاوض حولها مع واشنطن التي ستطلب أثماناً مقابل منح موافقتها لمساحات نفوذ إيران.

وتقول هذه المصادر إنّ المفاوضين الاميركيين طلبوا في وضوح من نظرائهم الإيرانيين فتحَ ملفات الساحات المشتعلة في المنطقة، لكنّ هؤلاء سارعوا الى إقفال الموضوع ورفض أيِّ بحث في ذلك تنفيذاً للتعليمات المعطاة لهم.

أما اليوم فإنّ إدارة ترامب تحاول إعادة عقارب الساعة الى الوراء واشتراط عدم إقرار الاتّفاق النووي إلّا بعد التفاهم الكامل على مدى النفوذ الإيراني الإقليمي مقابل التزامات إيرانية تطاول المصالح الأميركية.

وفي موازاة تعميق «الوجع» الإقتصادي الإيراني من خلال العقوبات الاميركية الجديدة، نفّذت واشنطن ضغطاً ميدانياً على النفوذ الايراني الواسع. ففي اليمن يساهم الجيش الأميركي من خلال طائراته المُسيّرة وقدراته التكنولوجية في دعم الهجوم القائم لانتزاع الميناءين الخاضعين لسيطرة الحوثيين على البحر الاحمر واللذين يشكلان مصدراً مهمّاً لدخول الاموال والاسلحة وهما الحُدَيدة والصليف.

وفي سوريا أوكلت واشنطن لإسرائيل جانباً أساسياً من مهمة الضغط الميداني على الإيرانيين، في وقت تبدو المصادر الديبلوماسية الاميركية متفائلة بانصياع إيران عبر جرّها الى طاولة المفاوضات مجدداً.

وفي الوقت نفسه عمدت السعودية الى زيادة إنتاجها النفطي بنحو مئة الف برميل يومياً وبنحو مفاجئ بهدف طمأنة السوق العالمية من مخاوف انقطاع إمدادات النفط الايراني ومنع ايران من التعويض عن تراجع بيعها للنفط من خلال الاستفادة من صعود الأسعار.

والترتيبات الحاصلة في الجنوب السوري تدخل في الإطار نفسه: «إبعاد إيران و»حزب الله» من خطوط الفصل مع الجيش الإسرائيلي بعمق 30 كلم مع التزام روسي واضح في هذا الاطار، وفي موازاة ذلك إعادة إنعاش بعض مجموعات «داعش» في الشمال لتهديد التواصل البرّي.

وفي الجنوب السوري ما كانت إسرائيل لتوافق أصلاً على خطة سيطرة الجيش السوري على كل المنطقة المحاذية لخطوط الفصل لولا وجود مصلحة مباشرة لها. وبكلام أوضح حاولت إسرائيل إنشاءَ شريط باسم «الجوار الطيب» من خلال المجموعات المسلّحة عبر مدّها بالسلاح والمال والطبابة. لكنّ إسرائيل اكتشفت أخيراً وجود تواصل، لا بل تعاون، بين هذه المجموعات ومجموعات فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وهو ما جعلها مضطرة للموافقة على عودة الجيش السوري لإعادة ضبط المنطقة شرط إبقاء إيران و»حزب الله» بعيداً.

وللضغط الاميركي على إيران هدف آخر يتعلّق بتأمين ظروف إمرار»صفقة القرن» بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لكنّ لواشنطن حساباتٍ أبعد وأكثر استراتيجية في اطار سعيها لإجبار إيران على الجلوس الى طاولة مفاوضات ستكون سرّية.

ففي مطلع السنة الجارية أصدر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس وثيقة تتعلق باستراتيجية الدفاع الوطني الأميركي وتشدّد على أنّ المنافسة الاستراتيجية عادت لتكون بين الدول الكبرى ولم تعد مع الإرهاب الذي يشكّل الشاغلَ الرئيس لأمن الاميركيين منذ العام 2001.

وهذا الكلام يعني التركيز على الخطر الصيني المتصاعد ببطء ضد المصالح الأميركية. وفيما تعاني واشنطن نوعاً من انواع الارهاق في الشرق الاوسط بدت النخب الاميركية قلقة في شأن التقارب، لا بل التعاون الصيني – الإيراني. وتكفي الاشارة الى أنّ إيران هي الدولة الوحيدة على ساحل الخليج غير الملزمة بعلاقات تعاون امني مع الاميركيين، ونسج علاقة تحالفية في العمق بين الصين وايران سيعني فتح أبواب الشرق الاوسط امام الصين لتصل الى مياه البحر الابيض المتوسط والاسواق الاوروبية والافريقية. وهنالك على سبيل المثال تخوّف اميركي من فتح طريق من خلال سكة حديد من الصين الى البحر الابيض المتوسط عبر الهند وباكستان وإيران فالعراق وأخيراً الشاطئين السوري واللبناني. مع الاشارة الى أنّ الهند وباكستان اصبحتا عضوين كاملي الصلاحيات في «منظمة شنغهاي للتعاون».

ومن هذه الزاوية المهمة يجب النظر الى الضغوط الاميركية على إيران. وخلال ايام سيزور الرئيس الإيراني بكين لعقد قمّة مع نظيره الصيني على هامش اجتماع شنغهاي.

وللمرة الأولى عُقد في بكين مؤتمر حول سوريا وإعمارها وهو ما يهمّ الصين لتثبيت أقدامها على رغم تمسّك القيادة الصينية بوجود هواجس أمنية إسرائيلية يجب الأخذ بها.

والى جانب علاقتها المتصاعدة مع الصين تتمسك طهران بتفاهماتها الاستراتيجية مع روسيا وتنسيقها القائم مع تركيا في سعي لإقامة شبكة حماية دولية لها مقابل الضغط الأميركي الهائل الحاصل.

وفيما تسعى واشنطن لاستمالة روسيا بغية إبعادها عن الصين وإغرائها بوراثة بعض النفوذ الإيراني في سوريا، تعاود الإدارة الأميركية إحياء تحالفها مع تركيا ومنحها دوراً محوَرياً في سوريا والشرق الاوسط للتوازن مع ايران والمشاغبة على أيِّ تعاون إيراني ـ صيني.

وقبل فتح صناديق الاقتراع في تركيا في 24 من الشهر الجاري عوّضت واشنطن للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن محنة تراجع سعر العملة الوطنية بإعطائه تفاهماً حول مدينة «منبج» السورية سيكون قادراً على توظيفه انتخابياً. لكنّ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قال بعد زيارته لواشنطن «إنّ اتّفاق منبج ليس بديلاً من التعاون مع موسكو». واضاف: «أنشأنا مع إيران وروسيا في أستانا مناطق خفض تصعيد وندعم وقف إطلاق النار».

لكنّ واشنطن تريد منحَ تركيا توكيلاً إقليمياً ما في الشرق الاوسط، فهي حاجز الحماية لأوروبا، وهي واحدة من اكبر عشرين اقتصاداً في العالم، وهي صاحبة اكبر ثاني جيش في حلف «الناتو»، وهي لأجل كل ذلك قادرة على التوازن مع إيران.

ووسط كل هذه التعقيدات يتصرّف المسؤولون اللبنانيون بكثير من التبسيط. لكنّ العامل المساعد لهم أنّ المظلّة الدولية ما تزال ثابتة لتجنيب لبنان الاهتزازات. التنسيقُ الأمني قائم وأبواب الدعم العسكري مفتوحة والمراقبة الدولية لممرّات التهريب الى لبنان تحت المجهر، وتذكير الدول القادرة على أنّ هزّ أمن لبنان قائم في استمرار.

وبخلاف التفسيرات الإعلامية السلبية للكلام الاخير للامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، فإنّ الاوساط الديبلوماسية قرأت رسائل ايجابية مرّرها السيد نصرالله بطريقة ذكية جداً، كمثل تلبية إنسحاب «حزب الله» من سوريا بناءً على طلب القيادة السورية فقط، هي رسائل ايجابية في نظر العواصم الغربية وتساعد على تجنيب لبنان حملة الضغوط القائمة.