IMLebanon

الفلاحون لتشيخوف… سرقة أحلام الفقراء

كتبت نسرين بلوط في صحيفة “الجمهورية”:

في مجتمع برجوازي يتصلّف فيه الغني ويتمادى ظلماً وتعتيماً للشمس، تتنقّل أنفاسُ الروائي أنطون تشيخوف زاخرةً بهمهمات الظلم وتنهّدات الفقراء.

«الفلاحون» قصتان منفصلتان تناول من خلالهما الكاتب أحلاماً تجوّلت فوق خدّ الزهور ثم نامت للأبد تحت ظلال الفقر الدامي أو الكبت العنيف. بدأ بقصة «نيكولاي تشيكلديف» الذي عاد بأسرته إلى منزل أهله في قريته لمرضه الشديد الذي عجز أن يؤمّن علاجَه في المدينة التي تغرّب ليعمل فيها، فلم يعد له أو لأسرته ما يسند أودهم. وقد كان الحال في بيت أبويه في القرية أشدَّ بؤساً وأكثرَ تنكيلاً، حيث يجمع العائلة بأسرها بالإضافة إلى أبويه، من أخوته وزوجاتهم وأطفالهم.

الحزن يفتك قبل الداء
يتحمّل نيكولاي الحشرات الزاحفة واللظى الخانقة في الصيف والجوع والبرد الشديد في الشتاء، ويرى الغني يطلق بغمزة عين واحدة سهمَ الظلم على الفقير، ويكاد يصرخ وهو يبصر أنّ العمدة يفرض عليهم الضريبة التي عجزوا عن دفعها فيأخذ «السموار» من دارهم الحقيرة (أي وعاء يُستخدَم لغلي المياه)، وقد كان منزل العائلة الذي يخلو من السموار بمثابة منزلٍ عارٍ من الحياة، فالشاي يُعدّ منه ليليّاً في تلك البيوت البسيطة، والسمر يبدأ حوله. في النهاية يموت نيكولاي بحسرته لا بمرضه فالحزن يفتك قبل الداء أحياناً، وتعود زوجته مع أولادها لتتسوّل وتبحث عن عمل خادمة في البيوت.

مستشفى الأمراض العقلية
ثم ينتقل بنا في قصته الثانية إلى مستشفى الأمراض العقلية، ويعطينا نماذج بشرية حيّة لأناسٍ فقدوا رشدَهم وعاشوا في دوامة من الأوهام، ويركّز على المريض إيفان ديمترتش الذي يعاني من عقدة الخوف، متوهِّماً بأنّ أحدَهم يريد القبض عليه وقتله، وقد خلقت تلك العقدة لديه من السراب، من اللاشيء، أو ربما من التراكمات الإجتماعية الصارمة التي كانت تتكدّس في الأرواح آنذاك، فقد كان إنساناً مثقفاً شريفاً، صارماً، يصنّف الإنسانية في خانة الأبيض أو الأسود ولا حلّ وسط بالنسبة له بينهما، وهي في نظره تنقسم إلى شرفاء وأنذال، وكان يقدّس المرأة مع أنه لم يقع في الحب أبداً، فهل سبّبت له قيمُه العالية ومُثله الدمثة تلك العقدة والوسوسة والريب من الآخرين لينتهي به المطاف في مستشفى لا يزورها إلّا الحلّاق الذي يعوّدهم بين فترة وأخرى؟ نرى إيفان لاحقاً يعقد صداقةً خاصة مع طبيبه النفساني أندريه يفيمتش الذي يدرس الطب بناءً على رغبة والده مع أنّه كان يتمنّى أن يكون راهباً، فيعيش بلا هدف، ويعمل بلا حماسة، ولكنه يجد في إيفان متنفَّساً لكربه فيحاوره كل يوم ويجلس معه وقتاً طويلاً مبهوراً بثقافته العالية، مؤثراً إياه عن باقي المرضى، يلقي عليه مواعظ ثقيلة بعد سماع شكواه، بأنّ على المرء أن يتكيّفَ مع كل الظروف حتى وإن وُضع في مستشفى للمجانين مع اعتراض إيفان على تلك الأفكار الوهمية التي يحيكها خيال طبيب تتوفر له النظافة والبيت المريح والمركز اللائق. وهذا يثير لدينا قول الطبيب النفساني الشهير ألفرد أدلر «رقّة الشعور هي تعبير عن الشعور بالنقص».

ويبدأ الطبيب أندريه يثير شكوكَ زملائه والممرّضين في المستشفى، فأيُّ عجبٍ بالنسبة لهم أن يحاور الطبيبُ مريضاً فقد عقله، فيطردونه من وظيفته ثمّ يحاولون إثبات التهمة بأنّ الطبيب قد فقد عقله أيضاً، وينقلونه إلى سريرٍ في المستشفى يجاور سرير مريضه إيفان، الذي ينظر بدوره إليه متحدّياً بعد أن يفقد الطبيب صبره لحلوله في ذلك المكان القذر ويحاول أن يضرب الباب بيده ليخرج من دون أن يسأل أيَّ إنسان فيه، فيدرك بأنّ شقاء الظروف يفوق قدرة الإنسان على التحمّل في غالب الأوقات.

هنا يركّز الكاتب على نظرية ألفريدو في اللاشعور وهو المنطقة الافتراضية في النفس البشرية والتي تتضمّن النوازع والدوافع والذكريات والمخاوف والكبت النفسي والعقد المتأصّلة التي لم تتطوّر ولكنها نبتت من فترة الطفولة عند الإنسان، وهي تشبه الخيال الذي ينتقل من الحلم إلى العلم. وقد نسج هاتين القصتين من التصوير الدراماتيكي الذي كان سائداً في مجتمعه في تلك الفترة، واختلال الموازين الإجتماعية والنفسية في الأرواح.

تشيخوف كاتبٌ دافع عن سرقة أحلام الفقراء، وطبيب كان يعالج الفقراء مجاناً، وعاش ومات وهو إنسانٌ حقيقي بكلّ ما في الكلمة من المعنى.