IMLebanon

في ما يتجاوز تفكيك “الأونروا”

كتب حسام عيتاني في صحيفة “الشرق الأوسط”:

بعد ساعات من إعلان الإدارة الأميركية أنها ستوقف القسم الأكبر من تمويلها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، كشف وزير الخارجية الألماني هيكو ماس عن أن برلين ستزيد حصتها «زيادة ملموسة» خشية من أن «يؤدي اختفاء الوكالة إلى سلسلة من الأحداث لا يمكن السيطرة عليها».

جلي أن الموقفين الأميركي والألماني (والأوروبي عموماً) ينطلقان من خلفيتين شديدتي التباين في فهم وتقييم والتعامل مع القضية الفلسطينية ومعطياتها ومنها مسألة «الأونروا» التي يتعثر تمويلها منذ أعوام. لا تخفي واشنطن أنها تستخدم خفضها ضخ المال إلى الوكالة كأداة سياسية للضغط على السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينيتين وعلى الدول العربية التي تأوي القسم الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين لإرغام الأطراف العربية على تغيير أسلوب تعاملها مع موضوع اللاجئين والقبول بتوطينهم وإنزال أعدادهم بنسبة تسعين في المائة كما طلب المستشار الأميركي جاريد كوشنر قبل أسابيع. في حين تعرف ألمانيا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي أن سياسة كهذه ستدفع بموجات ضخمة من اللاجئين الجدد إلى الشواطئ الأوروبية على نحو يذكّر بمشاهد تدفق اللاجئين السوريين في العامين 2014 و2015 ويفاقم من تصدع الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال يصارع في شأن صوغ سياسة للتعامل مع الآتين من البحر من جهة، وتدارك التداعيات الداخلية لقضية اللاجئين وأبرز مظاهرها صعود اليمين المتطرف والشعبوي كما حصل في إيطاليا والنمسا والمجر وتعزيز مواقعه في فرنسا وألمانيا. اللاجئون بند في جداول الصراعات الداخلية في الدول الأوروبية، يضاف إلى ذلك أن الدول هذه ميزت نفسها عن الولايات المتحدة منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي باعتمادها سياسات أكثر تفهماً وتقبلاً لوجهة النظر الفلسطينية والعربية كما أفلحت في تحسس المأساة الإنسانية للفلسطينيين الذين سجلوا في أوروبا نجاحاً معتبراً في فتح المنابر الإعلامية والثقافية لهم، في حين أن تأييد القضية الفلسطينية ظل محصوراً في بعض الدوائر الأكاديمية اليسارية في الولايات المتحدة.

وبعد اضمحلال التقديمات المالية التي كانت توفرها الفصائل الفلسطينية المختلفة، تحولت «الأونروا» من خلال خدماتها الإغاثية والتعليمية والصحية إلى جزء مهم من منظومة الأمن الاجتماعي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات. وهو ما تدركه كل الأطراف المعنية. لذلك يرحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بكل إجراء يرمي إلى إضعاف الوكالة وتهميشها كخطوة ضرورية في رفع الضغط على المواطنين الفلسطينيين لإخضاعهم وحملهم على قبول الاحتلال في الضفة والتخلي عن مطلب العودة وحق تقرير المصير.

بيد أن «الأونروا» ليست إلا مجالاً واحداً من مجالات الصراع. وفيه تستطيع أوروبا ممارسة قدر من التأثير خلافاً للعملية السياسية التي لم يعد للاتحاد الأوروبي دور يذكر فيها باستثناء تأمين نسبة من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية وموازنتها. وربما تكون القيادة الفلسطينية ارتكبت كثيرا من الأخطاء الاستراتيجية منذ تسعينات القرن الماضي جعلتها تتراجع في كثير من المناسبات بل وتخفض سقف توقعاتها من إعلان فلسطين دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية إلى السعي إلى إفشال التهدئة التي تتفاوض في شأنها «حماس» وإسرائيل وما يطلق عليه «صفقة القرن» من جهة، والحيلولة دون انهيار «الأونروا» الذي سيمثل طعنة في قلب المجتمع الفلسطيني، ليس بسبب المعونات والخدمات التي تقدمها الوكالة، لكن بسبب ارتباط اسم «الأونروا» بقضية اللاجئين كقضية عادلة وملموسة وتحظى بتمثيل في المؤسسات الدولية التي خصتها بوكالة فاعلة.

غني عن البيان أن مناخ الانقسام الداخلي الفلسطيني الذي لا يبدو أنه قابل للعلاج والتجاوز، يعيق توحيد الجهود للحفاظ على «الأونروا» تماماً مثلما أعاق جهوداً سابقة لتوحيد مؤسسات السلطة وأجهزتها و«حكومتيها» على الرغم من المبادرات الكثيرة التي لم يعمر أكثرها سوى بضعة أسابيع. ومفهوم أيضاً ارتباط هذا الانقسام بالتجاذبات الإقليمية وبتضاؤل الاهتمام العربي الذي بات موجها إلى نواح تبدو أخطارها داهمة ومباشرة في نظر السلطات العربية، التي لا ينكر بعضها الاستياء من مواقف فلسطينية لم تلتئم جراحها كما يجب حتى اليوم.

في هذه الأثناء، تتقدم اقتراحات التسوية والتهدئة وتخفيض عدد اللاجئين من جهات أقوى من قدرة المساهمة الألمانية المالية على وقفها. وعلى الرغم من خطر هذه الاقتراحات التي قد تتحول إلى خطط تنتظر التنفيذ في مستقبل قريب، يفتقر الفلسطينيون إلى النصير في العالم بعدما تكاثرت القضايا العادلة التي تختتم بثورات خاسرة.