IMLebanon

رواية استقلال تشريني

كتب جهاد جرجس في صحيفة “الجمهورية”:

غربت شمس تشرين الثاني عن عين عنوب بُعَيد الرابعة عصراً. فـ”بأيّام الزيت صبّحت ومسّيت”. يقصرُ النهار فيتقارب السلام الصباحي والسلام المسائي. غير أنّ لبنان والعالم كانا أبعد ما يكونان عن السلام. فالحرب العالمية الثانية على أشدّها، ولبنان موضع تجاذب بين الحلفاء ودول المحور، وحتى بين الحكومتين الفرنسيّتين، تلك المتعاونة مع الألمان بقيادة المارشال فيليب بيتان وحكومة فرنسا الحرّة بقيادة الجنرال شارل ديغول. هذا ما كان يتحدّث به سعيد وأبناء قريته الذين يقطفون الزيتون.

سارع سعيد بالعودة من حقل الزيتون الى منزله مع زوجته نبيهة الشعار وأولادهما أمين ورشيد ووجيه. وما ان اغتسل حتى ارتدى ملابسه النظيفة وسارع الى الخروج من منزله.

– ألا تريد أن تتعشى؟

– لا. فالرفاق في انتظاري.

كان سعيد يركض وهو يُكمل إدخال يديه في أكمام سترته، قبل أن يصل الى حيث تجّمّع رجال القرية، يتبادلون آخر الأخبار الواردة من بيروت. ففي الثامن من تشرين الثاني، ألغت الحكومة اللبنانية مواد الدستور التي تعطي صلاحيات مُطلقة للمفوض السامي، فردّت المفوضية العليا الفرنسية بعد ثلاثة أيّام باعتقال قيادات البلاد وسجنتهم في قلعة راشيا.

تمنّى سعيد المشاركة في التظاهرات الصاخبة التي سارت في مختلف المناطق، خصوصاً في بيروت، حيث وزّع شباب “الكتائب” و”النجّادة” المناشير ونظّموا التظاهرات واصطدموا بالجنود السنغاليّين الّذين قالوا لهم: “جئنا نمدّنكم”.

– سيكون لنا يا سعيد دور أهم من التظاهر في بيروت، همس أحدهم في أذن سعيد الذي نظر إليه كمن ينتظر الجائزة الكبرى.

لم ينتظر سعيد طويلاً حتى سمع آخر يقول له: “إنّ الوزراء الذين نجوا من الاعتقال جاؤوا الى جيراننا في بشامون واتخذوا مقرّاً للحكومة”.

حمل الرجال ما تيسّر من بنادق ومسدّسات وحتى من فؤوس، وأسرعوا الى بشامون الى منزل الشيخ حسين الحلبي على التلّة.

عرف سعيد ممّن تجمّعوا هناك، أنّ المير مجيد أرسلان، وصبري حمادة رئيس مجلس النواب والوزير حبيب أبو شهلا، مجتمعون داخل المنزل يكتبون الرسائل والتوجيهات.

توزّع الرجال على مداخل القرية وفي أحراجها، يرقبون أي حركة للجنود السنغاليّين، وتحلّق بعضهم داخل القرية حول نار تدفع عنهم برد ليالي تشرين.

– لماذا كل هذا والجنرال كاترو أعلن استقلال لبنان في 8 كانون الأول 1941 باسم الجنرال ديغول!

– نريد استقلالاً كاملاً وغير مشروط بموقع متميّز لفرنسا.

– وبريطانيا العظمى تشجّعنا على ذلك.

– كل الشغلة شغلة الجنرال سبيرز. يريد تعزيز نفوذ بريطانيا على حساب فرنسا في شرق البحر المتوسط.

– كبّرو عقلكن. هناك قوّتان عالميّتان جديدتان: الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي، وهما تريدان إخراج فرنسا وبريطانيا من المناطق الخاضعة لانتدابهما لإضعافهما.

– صحيح شباب الحزب الشيوعي يشاركون في التحرك.

– وكذلك الحزب السوري القومي.

– المهم استقلال لبنان، عن الغرب وعن الشرق.

تردّدت كلمة مزبوط مرّات عدّة بأصوات مختلفة توحي بالإجماع.

– يكفي تنظيراً سياسيّاً. قوموا نبحث عن مكان نقطع فيه الطريق على العسكر إذا جاء صوبنا.

إرتأى البعض سدّ الطريق أمام سنديانة كبيرة، فوضعوا الحجارة وسط الطريق وأقاموا المتاريس، واعتمدوا كلمة سرّ للسماح بالمرور هي “بشارة ورياض”.

لم يتأخّر الفرنسيّون. فمساء الاثنين في 15 تشرين الثاني 1943، دارت معركة عنيفة ردّ فيها اللبنانيون الجيش الفرنسي على أعقابه.

صباح اليوم التالي، وثق سعيد بالنصر وراح يفتّش عن المكان الأفضل لمواجهة الجيش الفرنسي عن قرب، ولم يجد أفضل من المتراس الذي قرب السنديانة حيث سدّ ورفاقه الطريق بالحجارة.

لم يصدّق سعيد أذنيه إلاّ عندما رأت عيناه المصّفحات الفرنسية تقترب من موقعه، وبدأت زّخات الرصاص من كل حدب وصوب. دبّ الحماس به، فأخرج من حزامه قنبلة يدويّة ونزع صمّام أمانها وهرع نحو المصّفحة الفرنسية ليرميها عليها، لكن الرصاص كان أسرع منه فأصابه مرّات ومرّات.

حمله رفاقه على باب وأسرعوا به باتجاه الشويفات، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة على الطريق.

عاد الرجال بجسد سعيد الى عين عنوب ودفنوه بمن حضر دون كبير احتفال.

لم يرَ سعيد فخر الدين علم لبنان يرتفع للمرّة الأولى على بيت الشيخ حسن الحلبي في 19 تشرين الثاني 1943.