IMLebanon

أوقفوا المناكفات .. وابدأوا العمل!

كتيب ريمون شاكر في صحيفة “الجمهورية”:

ثمانية أشهر قاسية مرّت على لبنان، وأخطار كثيـرة هدّدت استقراره. ومع أنّ ولادة الـحكومة لـم تكن حدثاً مفاجئاً، إلاّ أنّ فتـرة الإنتظار كانت طويلة جداً ومُكلفة كثيـراً.

أجواء الإرتياح انعكست إيجاباً على الواقع الـمالـي وبدّدت القلق الذي كان يسيطر. ولكنّ التساؤلات بقيت تقضّ مضاجع اللبنانيـيـن ولـم تـتوقّف: هل الوزير الـ11 كان يستأهل هذه النكسة الإقتصادية والـخسائر الكبيـرة فـي إحتياطي مصرف لبنان من العملات؟ وهل مكتوب على لبنان أن يبقى مدى العمر رهينة خـمسة أو ستة من زعمائه؟ وهل الفراغ فـي الـمؤسّسات عند كل استحقاق دستوري أصبح جزءاً من حياتنا وتراثنا ولا سبيل إلى معالـجة أسبابه وتـجنّب تداعياته؟

إنّ تشكيل الـحكومة كان ضرورياً وملحّاً لتفادي سقوط الـهيكل على رؤوس الـجميع، ولتطبيق الإصلاحات التـي تعـهّدت بـها الـحكومة فـي مؤتـمر “سيدر”، بـحيث يستفيد معها لبنان من الـمساعدات الـمالية الدولية الـمقرّرة، أكثـر من 11 مليار دولار، فـي تطوير بـنـيـتـه التـحتية وتـحسيـن ماليته العامة ودعم قطاعاته الإقتصادية.

إن مـجرّد تأليف الـحكومة، وجّه رسالة اطمئنان إلى الـداخل والـخارج، وأعطى بعض الأمل للذين فقدوا كل أمل. أمّا ثقة الناس فتحتاج إلى أكثـر من أسـماء برّاقة ووجوه ضاحكة وسيـرات ذاتية مـميّزة وشهادات دولية عالية، إنـها تـحتاج إلى إنـجازات ملموسة.

لا يـمكن للـحكومة أن تواجه التـحدّيات الكبيـرة دون أن تـحقّق أيّ إنـجاز، إذا لـم تكن متكاتفة ومتضامنة فـي تنفيذ خطّة عمل واضحة وشفّافة لا مكان فيها للمصالـح الشخصية والفئوية. فالبيان الوزاري هو برنامج عمل.

والقضايا الشائكة التـي تقسم اللبنانيـيـن معروفة، ولا سبيل إلى معالـجتها فـي بيان أو عبارات منمّقة. فلا الشعارات الـحزبية الشهيـرة ستسدّ جوع الناس، ولا التناكف حول العلاقات اللبنانية- السورية سيؤمّن فرص عمل، ولا التشاحن حول سلاح “حزب الله” سينهض بالإقتصاد ويريح الأسواق.

الأولويات، وعلى رغم تعدّدها، هي مـحلّ اتفاق تام بيـن القوى السياسية. ومهما كانت الآراء متباعدة والإنقسامات عميقة، لا خلاف على خفض عجز الـموازنة وكلفة الديـن العام، ولا خلاف على الـحدّ من الـخسائر الكبيـرة لعجز الكهرباء، ولا خلاف على إيـجاد الـحلول السريعة للأزمات الأخرى.

قد يبدأ الـخلاف عندما تبدأ معركة مكافـحة الفساد، إذا سُـمح لـها أن تبدأ، لأننا كما يقول نـجيب مـحفوظ : “نستنشق الفساد مع الـهواء، فكيف نأمل أن يـخرج من الـمستنقع أمل حقيقي لنا”؟

الـمضحك الـمبكي هو أنّ الـجميع من دون استثناء يريد مكافـحة الفساد واقتلاعه، والكلّ ينادي بالشفافية ووقف الـهدر والسرقة لـمنع الإنـهيار، حتـى بـتـنا نتساءل أيـن هم الفاسدون؟ فالفساد لا ينبت إلاّ فـي تـربة خصبة حيث هناك من يعـتـنـي به ويـحميـه.

وقد تبيّـن للمنظّمات الـمتـخصّصة التـي تناضل فـي هذا الـمجال أنّ الذيـن يُـمسكون بالقرار السياسي وبالسلطة هـم بأغلبـيـتـهم يستفيدون من الفساد أو يتغاضون عنه، لأنّ كلفة مصاريف أحزابـهم وأولادهم وأزلامهم وأطماعهم بالثروة والنفوذ هي أكبـر بكثـيـر مـمّا تتـحمّله جيوبـهم وحساباتـهم الـمصرفية.

لـم يصل الديـن العام إلى 85 مليار دولار بسبب الـمشاريع التــنموية وكلفات البنـى التـحتية، بل بفضل الصفقات والسـمـسرات الكبيـرة وصناديق جوائز التـرضية الـموزّعة على الطوائف.

ولـم يـحلّ لبنان فـي الـمرتبة 143 بيـن180 دولة فـي مؤشّر الفساد بسبب الرشاوى الصغيـرة الــتـي يتقاضاها بعض الـموظفيـن الصغار. الفساد يـهبط من أعلى إلى أدنـى، و”شطف الدرج” يـجب أن يبدأ من فوق. يقول فلاديـميـر بوتيـن: “أولئك الذيـن يـحاربون الفساد يـجب عليهم تنظيف أنفسهم”. فإذا صَلُحَ القائد فـمن يـجرؤ على الفساد؟

لا حلّ أمام الـحكومة، إذا أرادت فعلاً وقف العجز، إلاّ بوقف الـهدر وتشكيل لـجنة من كبار القضاة لـمكافحة الفساد وتطبيق قانون “من أين لكَ هذا”؟ لقد استطاعت اللجنة العليا لـمكافحة الفساد فـي السعودية من إعادة 107 مليارات من الدولارات إلى الـخزينة العامة للدولة من الأمراء والسياسيـيـن ورجال الأعمال الـمتورطيـن فـي قضايا الفساد العام. فـهل تـجرؤ حكومتنا على تشكيل مثل هذه اللجنة لـمحاسبة الـمتورطيـن؟

لن تكون مهمّة الـحكومة سهلة، ولـن تكون كل الطرق معبّدة أمامها، لا سيـما وأنّ الـخلافات بدأت تظهر فـي صفوفها. ولكن على السادة الوزراء أن يدركوا جيداً، أنّ هذه الـحكومة هي آخر حكومة فـي هذا العهد، وهي “آخر خرطوشة” لقيام الدولة ونـجاح العهد. وأن يتذكّروا قول الـمتنبّـي:

على قدر أهل العزم تأتـي العزائـم     وتأتـي على قدر الكرام الـمكارم …