IMLebanon

عن حفرة إعلامية ومجتمعية (بقلم راجي كيروز)

بعيدًا عن السياسة، لم يعد خافيًا على أحد أن مجتمعنا مليء بالأفكار العنصرية والطائفية والذكورية، والأفكار التي تتجذر فيها كل أشكال التمييز ضد المختلف، مهما كان “غير مختلف” حسب معاييرنا. ولم يبخل علينا الإعلام التقليدي بهذه الأفكار يومًا، فقليل ما سمعنا أفكارًا مختلفة، طبعًا بالتطبيق الفعلي وليس بالشعارات فقط، حتى أصبحنا نعتبر أن أفكارًا كهذه عادية جدًا.

هذه أزمة مجتمع، وأزمة إعلام في الوقت نفسه. يقال إن الإعلام مرآة المجتمع، وهو يقدّم ما يطلبه المجتمع، إلا أن البعض يظن العكس. فالإعلام يشكّل الرأي العام، ويساهم في انحطاطه أو رفعه. يجوز الوجهان، وهذا نقاش غير محسوم. لكن، بغض النظر عن أي إجابة، ثمة نظرية واضحة يمكن القول بها: على الإعلام أن يسعى دائمًا إلى الأفضل، وبالتالي عليه أن يفعل كل ما بوسعه ليرتقي بالمجتمع عبر نشر أفكار جديدة ومختلفة، تعالج العمق ولا تلامس السطح فقط. هذا كلام “مثالي” – وكأن هذا المصطلح مذمة – فأصحاب المؤسسات الإعلامية رجال أعمال في المقام الأول، ولن يهتموا يومًا بما ينشر مقابل ربح فلس إضافي.

على كل حال، نحن نقع يومًا بعد آخر في الحفرة أعمق وأعمق، ونجد أنفسنا عاجزين وضائعين من أين نبدأ، فـ”الطاسة ضايعة”. هي ضائعة فعلًا. أكثر ما يزعج هو افتقاد هذا المجتمع إلى عقول جديدة، عقول يمكنها أن تحدث تغييرًا ما. هنا الممثل، مثلًا، يقتصر وجوده الثقافي على دور يلعبه. ممثلة تعتبر أن “الرجل لا يعيبه شيء”، مغنية تعتبر أن كفًا “عالخفيف” للمرأة شيء مقبول، وإعلامي يقتات على وجع الناس ويستعرض…

هذا المجتمع ليس بحاجة إلى أن يقوده سياسيون، فهم أصل الخراب. السياسيون في أي مجتمع طبيعي يمكن أن يكونوا غير معروفين أصلًا خارج نطاق عملهم، إلا أن نائبًا مغمورًا عنا يريد أن يستعرض يوميًا، يريد أن يكون مرئيًا دائمًا، حتى لو لم ينجز شيئًا. وهذا ينطبق على الإعلاميين أيضًا، يا للأسف. الإعلامي هنا يريد أن يظهر، يريد أن يستعرض كل مهاراته في تقرير، يريد أن يستعرض كل جماله على الشاشة، مستعد لرمي كل معايير المهنة وأخلاقياتها من أجل لحظة شهرة، فيما مراسلون مهنيون في بلدان أخرى لا يبحثون عن لحظة “نجومية” واحدة، لأن هدف الإعلام ليس النجومية.

هذا المجتمع في حاجة إلى قادة رأي فعليين، في حاجة إلى فنانين يمكن الاقتداء بهم في بلد يقتله السياسيون، وليس إلى فنانين مستنسخين. هذا المجتمع في حاجة إلى كتّاب ومفكرين وفلاسفة – طبعًا ليس كتّاب الـsocial media – والفلسفة ليست مذمة على فكرة. هذا المجتمع في حاجة إلى أن تعطي التلفزيونات ساعاتها لعاقلين، ليس لمجرد إعادة تدوير ما أتخمنا منه. فما الهدف من برنامج صباحي سياسي حواري يومي مثلًا؟ ما الذي يمكن أن يقدّمه “محلل” سياسي، أو نائب، على هذه القناة أكثر مما قدّمه (إن قدّم شيئًا) بالأمس على قناة أخرى؟ ما هذا الوقت الذي يستنزف بلا أي معنى؟ الحارة ضيقة، النواب معروفون، “المحللون” معروفون، والقنوات التلفزيونية معدودة. نريد شيئًا جديدًا.

التغيير في السياسة يسبقه تغيير في عقليتنا ومقاربتنا الأمور. بلد ليس فيه إعلام حقيقي، وفن حقيقي، وموسيقى حقيقية، لن يكون فيه سياسة حقيقية بطبيعة الحال. كلها رزمة واحدة. والوطن يبنى بالفكر والأدب والفن والموسيقى والرسم، وليس بالسياسة.