IMLebanon

تأثير الحياة المعاصرة على دماغ الإنسان

كتبت ماريانا معضاد في “الجمهورية”:

 

مع تقدّم الوقت يتغير نمط الحياة، ومعه يتطور دماغ الإنسان بشكل يتأقلم مع بيئته. لقد أصبح أسلوب حياتنا اليوم أكثر خمولاً من أي وقت مضى، وحياتنا اليومية متعلقة بمجملها بالتكنولوجيا التي تسيطر شيئاً فشيئاً على مخترعها.

في حديث لـ«الجمهورية»، تناول الدكتور طارق فيليب الصناع، جرّاح أعصاب واختصاصي في جراحة العمود الفقري وجراحة الآلام المزمنة وطبيب في مستشفى الجامعة الأميركية، موضوع تأثير الحياة المعاصرة على دماغ الإنسان وصحته العقلية.

مراحل تطور دماغ الإنسان

إستهلّ د. طارق الموضوع مفسّراً: «في البداية، تكون خلايا الدماغ بمثابة كتلة واحدة، وكل جزء منها، بتأثيرات هورمونية وغيرها، ينفصل عن الكتلة ويضطلع بدوره في الجسم: خلايا الذاكرة، التفكير، النطق… وفي الأسبوع 28، يكون الدماغ والحبل الشوكي قد تكوّنا. في الحقيقة، المنطقة الأمامية من الدماغ هي الأكثر تأثراً بالحياة اليومية، ولاسيما بالإجهاد (أي الـstress). هذه المنطقة هي عادة مسؤولة عن التفرّق بين الصح والخطأ، وعن التفكير والتركيز، والتصرف بعقلانية وطريقة معالجتنا لمختلف الحالات. لذا، في حال حدوث خلل في وظيفة هذا الجزء من الدماغ، يفقد الإنسان أو يفتقر إلى القدرة على التفكير بشكل صحيح، وعلى التركيز، وعلى اتخاذ القرارات الصائبة، وقد يتصرف بطريقة لا تتلاءم مع التصرف «الطبيعي»، ويصبح عدوانياً إلى حد ما».

العوامل المؤثرة على الدماغ

بحسب د. طارق إنّ الإجهاد من أهم العوامل المؤثرة على الدماغ. كيف؟ يحلّل الدكتور طارق: «خلال مرحلة الإجهاد (بسبب مرض أحد أفراد العائلة، أو مشاكل مادية أو عائلية أو غيرها)، ترتفع نسبة مادة الكورتيزون في الجسم، ما يؤدي إلى ضمور (نوع من التلف أو عدم الاستعمال) في خلايا معينة. وعندما يكون الإنسان في حالة إجهاد، ينسى كثيراً بسبب ارتفاع نسبة الكورتيزون في الجزء من الدماغ المسؤول عن الذاكرة. تظهر الكثير من الدراسات والفحوصات والبحوث حصول ضمور للجزء الأمامي من الدماغ. فيفتقر الإنسان القدرة على التفكير والتخطيط بشكل مناسب. كما يصبح بحالة دائمة من العدوانية أو الـirratibility. وهناك جزء في الدماغ مسؤول عن الخوف، يساعدنا على اتخاذ قرار البقاء ومواجهة مخاوفنا، أو الهرب (fight or flight). وعند التعرّض للكثير من الاجهاد، تصبح هذه المنطقة أكثر حساسية، لذا يزداد القلق anxiety لدى الفرد، ونوبات الهلع، فيبالغ الإنسان من دون قصد في ردات فعله، ويؤثر ذلك على حياته اليومية».

وذكر الصناع أنّ «كل هذه الأمور الناتجة عن التعرض للإجهاد لفترة طويلة يمكن أن تقتل خلايا في الدماغ، لاسيما في منطقته الأمامية، وتؤدي كل نتائج الإجهاد (عدم التركيز، واتخاذ قرارات خاطئة…) في نهاية المطاف إلى حالة اليأس. وتصبح الضحية هنا عالقة في حلقة مفرغة، فالإجهاد يسبّب اليأس، واليأس يزيد من الإجهاد، وهكذا دواليك. يجب كسر هذه الحلقة في نقطة ما، وإلّا يشعر الشخص بالشلل العقلي، ويفقد القدرة على التحسن».

وأضاف: «أنا أرى أنّ هذه المشاكل النفسية والعقلية أصعب من المشاكل الجسدية. فإذا كسر شخص ما يده مثلاً، يعالج الكسر ويشفى. أمّا الصعوبات العقلية فعلاجها والخروج منها أصعب بكثير».

الخطر على الكبار كما الصغار

قال د. طارق: «يفاقم أسلوب الحياة الخامل الوضع، لاسيما في مجتمعنا. نعطي مثالاً البلدان الغربية، حيث يُقال انّ حياة الفرد تبدأ عند التقاعد من العمل، وذلك مُتاح لهم نظراً للطبيعة الاقتصادية والاجتماعية هناك. أما هنا، فيجلس معظم المتقاعدين في المنزل بعد التوقف عن العمل. وأظهرت الدراسات أنّ الجلوس في المنزل يسرّع الضمور في الدماغ، والإصابة بالألزهايمر والخرف…».

أما الأشخاص في سن صغير، «فالأجهزة الإلكترونية هي التي تؤثر كثيراً على أدمغتهم، إذ يستعمل الأولاد منذ عمر الخمس سنوات الهواتف والألعاب والأجهزة الإلكترونية. وقد أظهرت الدراسات أنّ هذه الأجهزة تتلف أدمغة الأطفال، كما تسبّب اليوم الكثير من أمراض الرقبة. وقد تطور مرض جديد يعرف بـText Neck syndrome، أي مرض الرسالة القصيرة». وأضاف: «المشكلة هي في اعتماد الأهل على هذه الأجهزة لتهدئة أطفالهم. صحيح أنّ تربية الأطفال أمر ليس سهلاً، وأحياناً يبلغ الأهل مرحلة لا حل لديهم سوى اللجوء إلى هذه الأجهزة، ولكن لا بد من حل آخر لا يؤذي أعضاء الأطفال (العينان، الرقبة وطبعاً الدماغ). ما لا يعرفه الأهل هو أنّ الأطفال يقلدونهم. فإذا رأى الأولاد ذويهم يقضون ساعات طويلة أمام الشاشة فإنهم سيفعلون الشيء نفسه، أما إذا رأوهم يقرأون كتاباً مثلاً فسيتأثرون أيضاً بهذا التصرف».

تغيير على المدى البعيد؟

معظم التغييرات التي يسببها الإجهاد (أي زيادة الكورتيزون وأثرها على الدماغ) قابل للعكس. أما على المدى البعيد «فما من دراسات تثبت بعد تغيّر في تكوين الدماغ بسبب عوامل الحياة المعاصرة، مثل اختفاء جزء من الدماغ مثلاً. ولكن الدراسات قد أثبتت بالفعل تغيّرات في كميات المواد الكيميائية في الدماغ، كما أثبتت ضموره نتيجة هذه العوامل، لاسيما الجزء المتخصّص في الذاكرة، والمنطقة الأمامية من الدماغ.

عادةً، يتأقلم الإنسان جينياً مع التغيّرات. إذاً قد تصبح عوامل إجهاد اليوم عادية في المستقبل».

وفي الختام قال د. طارق: «الإجهاد موجود في كل أوجه حياتنا. قد لا نتمكن من تجنّبه في خضَم أسلوب الحياة المعاصرة، ولكن علينا التعرّف الى الإجهاد وعوامله والأشخاص الذين يضيفونه إلى حياتنا. ما زالت استشارة طبيب نفسي عيب في مجتمعنا، والكثير ممّن يصاب بأمراض ذهنية شائعة كاليأس، لا يطلب مساعدة مُختصّ. لذا، نحن بحاجة إلى حملات توعية عن الموضوع، لاسيما في الأوضاع الصعبة التي نمرّ بها اليوم. الهدف هو مساعدة الأشخاص في التعامل بشكل صحيح مع الإجهاد».

في بعض حالات اليأس، وبعد محاولة علاج المريض بشتى الطرق ومن شتى المجالات الطبية، يلجأ بعض الأطباء إلى الجراحة. هي عملية مشابهة لتلك التي نجريها لمرضى الباركينسون: نضع قطباً كهربائياً (أي electrode) في منطقة الدماغ المسؤولة عن مشاكل اليأس. ما زالت نتائج هذه الجراحة أولية، وليست حلاً شائعاً، فتستلزم دراسات وبحوثاً في المدى البعيد، وما زالت قيد الدراسة.