IMLebanon

Covid -19.. وأزمة القلق التشاركي

كتبت ماكي المعلوف في صحيفة “اللواء”:

مع بدايات العام 2020، إنشغل قاطنو الأرض بمواجهة خطرٍ انتشار الوباء العالمي، فيروس كورونا المُستجدّ (COVID-19)، إرثٌ جرثومي من نهايات العام المنصرم. تمثّل المشهد بإستنفارٌ المستشفيات، وتأهبٌ الأطباء والمٌسعفين والقوى العسكريّة والأمنيّة، ونشاط المختبرات العلميّة، وانشغال منظّمة الصحّة العالميّة وقادة الدول، ومبادرات المتطوّعين وذوي الأفكار الخلّاقة. جميعهم، على اختلاف مسؤولياتهم وانتماءاتهم وتعدّديّة مجالات تخًصّصاتهم، إذا بهم يركزون الجهود، لمعالجة ملايين المصابين، ومحاصرة الوباء، والحدّ من انتشاره وحماية الأصحّاء. وعليه، تكثّفت المحاولات الحيّة لاختبار العلاجات الملائمة، واكتشاف اللُقاحات وإجراء التجارب في مهلٍ قياسيّة.

وبعد استخفاف معظم الدول، بداية، بتوجيهات منظّمة الصحّة العالميّة وإنكار خطورة العدوى الوبائيّة، عاد الكلُّ ليحتكم للمواقف العلميّة في المجال الصحّي. فكانتْ الدعوة عامةً للمواطنين العالميين للإلتزام بمبدأ «الإبعاد الإجتماعي» (Social distancing) الذي يفرض التباعد بين الأفراد عبر اعتماد مسافةٍ فاصلة آمنة تتراوح بين مترٍ وثلاثة أمتار.

كيف تفاعلتْ شعوب المجتمعات الموبوءة مع إرشادات الحكومات والوزارات المختصّة؟ وكيف تعاملتْ، تحديدًا، مع قرار الحجر أو العزل وبالتالي ملازمة المنازل وحظر التجوّل والتجمّع؟ وهل التزمتْ عمليًا بمبدأ الإبعاد الاجتماعي؟

بشكلٍ عام، اُقفِلَتْ المدارس والجامعات تجنّبًا لانتقال العدوى، وبالتالي سُطّرتْ قرارات حظر التجوّل والتجمّع وملازمة المنازل. إثر ذلك، وتدريجيّا، تكوّن مشهدٌ سلوكيّ جامعٌ على كوكب الأرض. فيه رُسٍمتْ لوحةٌ متجانسة من سلوكيّاتٍ وحّدت ردّات فعل الشعوب في معظم الدول، تمثّل ذلك بتهافت الأفراد والعائلات للتجمّع والإنتشار في المجالات العامة! لماذا انتشر المواطنون في المجالات العامّة عوضًا عن الإلتزام بمبدأ الإبعاد الاجتماعي؟ لماذا احتشدوا في سلوكٍ تمهيدي لانتشار الوباء، بدلًا من التشتّت والإنسحاب حتى الإختباء في المنازل؟ ما هي الأسباب التي دفعت مواطني العالم إلى التجمّع، في مجالات متنوّعة، بتناغمٍ نادرٍ؟ ولماذا تماثلتْ سلوكيّاتهم رغم تعدّديّة المجالات الجغرافيّة والهويّات والثقافات؟

عولمة القلق

على المستوى الماكروسوسيولوجي، يشكّل وباء كورونا المُستجدّ خبرة عالميّة مشتركة وفريدة! إنه حدثُ جديدٌ غامضٌ ومجهول إذ تغزو الجرثومة الكرة الأرضيّة للمرّة الأولى. لذا، فهو يثير نوعًا من القلق المميّز تاريخيّا، على نطاقٍ واسعٍ وشاملٍ، نادر الحصول، إنه قلقٌ تشاركي. يفسّر ذلك غياب الدراسات والإختبارات والتجارب والأدبيّات العلميّة والطبيّة كما الخبرات التراكميّة. فالإرث العلمي، عادة، يشكّل مرجعيّة معياريّة تستلهمها الدول كما الأفراد في تخطّي الأزمات. لذا، ربطت بعض الأبحاث ردّات الفعل الجماعيّة حيال جائحة كورونا بالقلق أكثر منه بالخوف والهلع. فانفعال الخوف يثيره تهديدٍ فعليّ أو مُدرك، واضح المصدر. أما الهلع فهو إحساسٌ مفاجيء بالخوف يعطّل التفكير العقلاني ويدفع إلى الهروب أو التجنّب.

على صعيدٍ أوّل، إثر إعلان الحكومات قرارات ملازمة المنازل، سجّل مواطنو العالم إحساسًا بالضغط أنتج بالتالي شعورًا بفقدان الإستقلاليّة والحرّية. وعليه، ظهرتْ ردّات الفعل المقاوِمة عبر سلوكيّات «الممانعة» أو التمرّد النفسي. تجدر الإشارة إلى امتناع بعض الدُول، بداية، عن فرض حظر التجوّل والعزل، إحترامًا للحريّات الفرديّة (اليابان، المملكة المتّحدة، إلخ). وعليه، استمرّتْ، للمثال، النشاطات الليليّة والترفيهيّة، ولم يتوقّف مترو الإنفاق حيث الإكتظاظ يشكّل ميسّرًا للعدوى. عوّلتْ تلك الدُول على سلوكيات المواطنين المنضبطة وعلى وعيهم دون إعلان حالة طوارىء. إلا أنّها، مع ارتفاع أعداد الإصابات، عادتْ لتعزّز الإجراءات الإحترازيّة، وتفرض، مجدّدًا، حظر التجوّل وملازمة المنازل.

على صعيدٍ ثانٍ، إنّ سلوكيّات الأفراد المقاومة للضغوط موضعتْ هؤلاء خارج النسق المرجعي المعياري الذي فرضته المرجعيّات السياسيّة أو الصحّية أو الأمنيّة بهدف الحماية من الوباء. بذلك تقلّصتْ مظاهر التفرّد إذ بيّنت المشهدية أنّ الأفراد لا يتصرّفون بإنعزالية تامّة أو بفردانيّة مطلقة، وإنما هم أشبه بكتلةٍ، رغم بعثراتهم المجاليّة والإنتمائية والثقافيّة. وعليه، فقد تمترسوا تلقائيًا، خارج إطار المعايير المستجدّة، وتفلّتوا من قهرها وقسرها.

على صعيدٍ ثالث، إنّ القلق (مُرفقًا بالشكّ) الذي أثارته قرارات المنع والحظر من جراء إعلان حالة الطوارىء وقرار الحجر والعزل دفع المواطنين للتفتيش عن رفقة الغير والتقرّب منهم لإلتماس معايير توجيهيّة لسلوكيّاتهم.

فردانيّة القلق

أمّا على المستوى الميكروسوسيولوجي، فللقلق انعكاسات تولّد مزيدًا من الفروقات والإختلافات واللامساواة. فاللامساواة ليست فقط إجتماعيّة وإنما أيضًا نفسيّة إذ تتعدّد استراتيجيات الأفراد في مواجهة القلق. البعض يطبّق معايير الوقاية والنظافة والحماية والسلامة ويلتزم مبدأ الإبعاد الاجتماعي. وعبر سلوكه، يبرز الدور البنّاء للقلق في التحفيز على حماية الذات عبر الإلتزام بقرار ملازمة المنازل واحترام حظر التجوّل والتجمّع.

وفئة ثانية لا تعترف بوجود الوباء فعليّا، وتعتقد أنه مجرّد وهمٍ، وتتابع نشاطاتها بدون كورونا، وعليه تعيش حالة إنكار مقنّعة بالقلق، وفئة ثالثة يصعقها كمُّ المشاعر السلبيّة التي تثيرها تمثّلات الوباء، فترزح من جرّاء الخوف والهلع، وبالتالي تنهار. بفعل القلق المتزايد، تتدهور قدراتها المناعيّة، نفسيّا وجسديّا، وتضعف إمكانيّاتها الدفاعيّة في مواجهة خطر الإصابة بالأمراض. وشريحة رابعة تُدرك خطورة انعكاسات الوباء، فتستكشف الجائحة وآثارها الاجتماعية والإقتصاديّة والنفسيّة، فتحفّزها بالتالي مشاعر الغيريّة وتستهويها سلوكيّات المشاركة والمساعدة والنجدة. وعليه تعدّدت وتنوّعت وتوزّعت المبادرات التضامنية حول العالم.

في زمن الجائحة، تبرز إيجابيّة دور القلق، القلق التشاركي الذي تحوّل إلى ظاهرة نادرة ومحفّزة للتفتيش عن معنى جماعي. وحيث أنّ حداثة الوباء وجهل حيثيّاته العلميّة، وبالتالي تعثّرات السيطرة عليه قد ساهموا في إثارة القلق على نطاقٍ عالمي، يبقى أنّ يعي الأفراد صعوبة التحكّم بالواقع وقبوله. وإنما بالمقابل، بالإمكان التركيز على الكثير من الأحداث والظروف التي يسيطرون عليها ويتحكّمون بمسارها. التركيز على أمور باستطاعتهم السيطرة عليها وتوجيهها وفقًا لما يشاؤون، فيكونون بذلك فعّالين في المجتمعات ومؤثّرين في تقليص القلق والمشاعر السلبيّة.