IMLebanon

المطران عبد الساتر: الثورة لا تقوم إلّا على يد من كان حرّ الضمير والإرادة

كتبت مرلين وهبة في “الجمهورية”:

لا يزال صدى العظة التي ألقاها «المطران الثائر» بولس عبد الساتر منذ نحو خمسة أشهر، يدغدغ مشاعر الثوار، بعدما أشفت غليلهم وأنستهم عصبياتهم الطائفية، فرفعوا صورته في وسط «ساحة النور» قرب مجسّم «قلعة المسلمين طرابلس» الذي تعتليه عبارة «الله»، بما يحمل ذلك من رمزية للمجسّم ولصورة مطران الموارنة المرفوعة في محيطه … فيما لا يزال الحكّام مربكين من صدى دعوته، أو من ثائر يغافلهم حيث لا يتوقعون، طالباً منهم الاستقامة أو الاستقالة. فهل يمكن تشبيه اليوم بالامس؟ وهل يجرؤ اليوم المطران الثائر على دعوة هؤلاء الحكّام مجدّداً الى الاستقالة، بعدما فشلوا في تلبية ندائه والإستماع الى مطالب شعبهم؟ وفي المقابل، هل ما زال الثوار متحمّسين لرفع صورة «المطران الثائر» عالياً في كل لبنان؟ أم أنّ العصبيات الطائفية في لبنان أقوى من ثورة الجيّاع؟

ببسمة واثقة وهدوء، يستهل راعي أبرشية بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر حديثه مع «الجمهورية»، مطمئناً الى انّ لبنان «قائم على عجيبة، وبقاؤه حتى اليوم هو أعجوبة بحدّ ذاتها، لذلك فهو وطن باقٍ ولن ينتهي» …

ولا يفوت مطران بيروت للموارنة أن يستذكر مآثر المطران يوسف بشارة، الذي صودف يوم دفنه، وهو عاش معه 4 سنوات ويعتبره «الاب الصالح الذي حمل بصلاته افواج الكهنة التي ساهم في نموها الكهنوتي والروحي». وعنه يقول وفاءً في يوم إنتقاله: «ترك بصمة في عمله الروحي الصامت والسياسي الفاعل… اكثر ما أذكره صمته في اجتماعات المطارنة الموارنة، فهو لم يتكلم كثيراً، وحين يفعل كان لكلمته وقع مهم وتأثير، وكانت مشورته وبصيرته تفتح ابواباً لأماكن لم يستطع غيره من الكهنة رؤيتها».

أما بالنسبة الى التعاطي مع السياسيين، فيقرّ عبد الساتر انّ الامر لا يستهويه، وانّ هوايته الاساسية همّ الناس «وإذا ما استلزم هذا الهَمّ التعاطي مع السياسيين وأجبرني على اتخاذ موقف منهم فليكن».

عن عظته الشهيرة كشف عبد الساتر لـ»الجمهورية»، انه لم يكن يقيّم من خلالها الحكم أو العهد «لأنّ الشعب اللبناني هو الذي سيعاود تقييمه للحكم ورجالاته عند الانتخابات المقبلة»، موضحاً أنّه كان يعِظ من منبره الحقيقي «في شكل واضح ومباشر»، ويؤدي عمل الاسقف الذي يعتلي مذبحه لنقل همّ الناس ويعظ المسؤولين كأب، كاشفاً انّ هوايته التجوال بين الناس وفي الحي الشعبي الذي نشأ فيه مع عائلته المتواضعة، مستمعاً الى مطالبهم وشكواهم «وعندما تسنّت لي الفرصة لنقل شهادتي امام المعنيين شهدت بالحقيقة، وكان من البديهي القول لهم، بعدما وضع الشعب كل ثقته بهم في الانتخابات، راجعوا حساباتكم، وهل حققتم آمال شعبكم؟ فإذا كنتم عل استعداد للتغيير بادروا، اما اذا كنتم غير قادرين فالافضل لكم الاستقالة».

هل تلقّى لوماً؟

ينفي عبد الساتر تلقيه لوماً من اي مرجعية سياسية او دينية بعد كلامه، لافتاً الى «انّ هناك ثوابت ومبادئ لا يتجاوزها الاساقفة الموارنة ورجال الدين في عظاتهم، لكن الاهم هو ان علينا قول الحقيقة»..

الصورة في «عاصمة السنّة»

«لا استأهل محبة بهذا الحجم»، هكذا علّق عبد الساتر على ردّة فعل اهل «طرابلس عروسة الثورة»، الذين رفعوا صورته في وسط ساحة النور «مربض الثورة والثوار». ويشعر انّ المسؤولية التي اوكلت اليه اصبحت اكبر ولا يستطع تحمّلها، مؤكّداً انّه حدث فريد في لبنان، «بخاصة انّ الصورة التي رُفعت معبّرة جداً، وهي مأخوذة من الذبيحة الالهية عند رفع دم المسيح ذبيحة، اي تقدمة لله الآب، ورمزيتها انّها وُضعت قرب مجسّم كلمة الله الذين يعبدون، ومعناها هم يعرفون انّ الذي يتكلم هو «شقيق لهم» ولو كان من طائفة اخرى، وانّ الله الخالق جمع بينه وبينهم في مشهدية موحّدة ومعبّرة في وسط ساحة النور، واشعر بعد هذه الخطوة انّ المسؤولية كبرت عليّ ولم أعد استطيع ان اتكلم سوى عمّا يعبّر عن وجع جميع اللبنانيين وليس وجع منطقة او فئة واحدة من اللبنانيين».

بين إنتفاضة الأمس واليوم

بالنسبة الى أحداث السبت الماضي تمنّى عبد الساتر على رجال الدين والسياسة «أخذ ما حصل بأهمية قصوى وليس الاكتفاء بالاستنتاج بأنّها ابنة ساعتها ولن تتكرّر، لأنّ لا احد يعلم الحقيقة حتى الساعة. إذ يجب العمل على تنقية النفوس».

أما عن إنتفاضة أمس الأول فعلّق عبد الساتر قائلاً: «انّه لمحزن أن يستغل أحدهم ألم الناس ويأسهم ليخرّب ويحرق»، داعياً إخوته إلى أن يرفضوأ «التعصّب المذهبي والتزلّم الأعمى والإنقياد الى شعارات فارغة ..لأنّ لا ثورة تقوم الاّ على يد من كان حرّ الضمير والإرادة».

العِبرة من كورونا

«ليس ثابتاً الاّ الانسان والله»، هي العبرة التي استشفها عبد الساتر من وباء كورونا، لافتاً إلى «ضرورة أن يدرك الإنسان بعد هذا الوباء انّ بناء الامبراطوريات والقصور الصناعية والتجارية وتكديس الاموال ليس ثابتاً وهو مجد باطل»…

لاسا

وبالنسبة الى ملف لاسا العقاري، كشف عبد الساتر «أنّ هناك مسحاً للاراضي لم يُنجز حتى اليوم كلياً، وأنّ سندات الملكية موجودة ومثبّتة»، ورأى «أنّ الافضل تحكيم القضاء لحلّ ملف لاسا، لأنّه وحده قادر على الحكم والفصل فيها بعد التأكّد من «الحجج» القديمة وإكمال مسح الاراضي الذي يجب ان يتمّ في اقرب وقت، وليأخذ من له حق حقه»، منبّهاً من عدم الوثوق بالقضاء «لأنّ في لبنان قضاة من انبل القضاة».

ولفت الى انّ «هناك مفاهيم مختلفة لأخوتنا الشيعة بالنسبة الى مفهوم الاوقاف المسيحية مغايرة لمفهومنا منه، خصوصاً وانهم يُدخلون عليه عناصر وعوامل خاصة بالانتداب الفرنسي، الامر الذي لا يصلح اليوم، خصوصاً حين يقول البعض انّ المسح ايام هذا الانتداب تمّ تحت الضغط، وفي هذه الحال من يؤكّد هذا الامر؟! ولذلك نرى انّ من الانسب العودة الى القضاء للفصل، لأنّ إحالة الملف الى لجنة من هنا او هناك هي مضيعة للوقت».

وتعليقاً على عقدة التشكيلات القضائية علّق عبد الساتر: «ستُوقعّ ان شاء الله»، لافتاً الى انّه لا ينقل معلومة، بل لأنّه واثق من «انّ الله يعمل على القلوب والصلاة تعمل على العقول ايضاً».

يعتقد المطران عبد الساتر انّ لبنان «قائم على عجيبة، وبقاؤه حتى اليوم اعجوبة بحد ذاتها فهو بلد القديسين والقداسة».

 

عصا بكركي

يلفت عبد الساتر الى «أنّ السبب الذي جعل البطريرك الحويك يتوصل الى اعلان «دولة لبنان الكبير» لم يكن قوة شخصيته، بل لأنّه فاوض بإسم الشعب اللبناني بكامله، ولذلك فاوض من منطق القوة». ويرى «انّ عصا بكركي كانت ستُسمع وكان سيكون لها وقع هادر لو كان هناك شعب لبناني مسيحي ومسلم خلفها وليس مارونياً فقط». فيما الحقيقة، بحسب تعبيره، انّ اللبنانيّين اليوم «منقسمون ليس فقط طائفياً بل ايضا داخل الطائفة الواحدة، فكل مجموعة تعتقد انّها وحدها قادرة على هز العصا». ويضيف: «اما اذا كانت اليوم عصا بكركي غير مؤثرة فأنا واثق من أنّ كلام غبطة البطريرك الراعي كان حازماً وواضحاً في الأوقات الحرجة التي لا تُنسى. فهو الذي بقي وحده ينادي بانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة، وعندما يئس الباقون… ولكن اذا لم يلق موقفاً موحّداً من جميع المسيحيين فكيف سينجح، وانا أعلم كم حاول، وأقول اليوم «اذا اراد اللبنانيون وليس فقط المسيحيين ان يكون لعصا بكركي وقع وتأثير، فيجب ان يكون هناك شعب موحّد خلفها. فرجال السياسة وحتى الشعب معنيون ايضاً بالحل، وعندما يكون هؤلاء ضد بكركي فلا يجب ان يوجّه لها لا لوماً ولا عتباً»، ويقول: «الطامحون كثر، واذا لم تلبِّ بكركي «بيحردوا وبيفلوا».

يلفت عبد الساتر الى «انّ الكنيسة وحدها ليس بمقدورها تلبية كافة رغبات رعاياها، ولكنها تحاول قدر المستطاع في ظلّ هذه الظروف المعيشية الصعبة، إلاّ انّ المطالب تتضاعف يومياً بسبب حجم الازمة»، مذكّراً المشككين «كيف انّ الكنيسة احتضنت رعاياها خلال الحرب وشرّعت مؤسساتها وأديارها لكل الذين تهجّروا من منازلهم وغادروا قراهم، وهي لن تبخل اليوم ايضا عليهم اذا احتاجوا كما فعلت في الحرب»، لافتاً الى «انّ كل ابرشيات الرعية توزع الحصص الغذائية على المسلمين والمسيحيين كافة وبلا تفرقة، وهناك شهادات مواطنين كثر تثبت ذلك، وكذلك تفعل مؤسسات الكنيسة من «كاريتاس» وغيرها، علماً أنّ البطريرك الراعي في صدد تحضير خطة كبيرة لديمومة المساعدات لكافة العائلات المحتاجة، إلا أنّه اذا فُصِلَ ابناؤنا من أعمالهم أو طُردوا من منازلهم فسنفتح أديرتنا ومدارسنا لإيوائهم. ونحن نواظب على الصلاة لكي لا نصل الى هذا اليوم لأن الكنيسة ليست الدولة».

ويقول عبد الساتر: «لا يجوز توجيه اللوم الى الجهة الخطأ، فيما المعنيون لا توجّه اليهم اصابع الاتهام، فهناك مسؤولية على الدولة لا يمكن ان تغيب عنها».

 

اما بالنسبة الى القانون والوعود في مجلس النواب لمساعدة المدارس الخاصة ولا سيما منها مدارس الارساليات المسيحية، فيعلّق عبد الساتر عليها قائلا: «لا تقول فول حتى يصير بالمكيول»، لافتاً الى «انّ الهدر الذي حصل في الدولة كان في الامكان عدم حدوثه وتحويل تلك الاموال الى المدارس الخاصة لمساعدتها في الاستمرار، لأنّ الاهالي يدفعون ضريبة للدولة وهذه المساعدة هي من حقهم».

الحل

يدعو عبد الساتر «جميع المسؤولين المقتدرين من سياسيين وغير سياسيين» الى «المبادرة لإنقاذ المدارس الكاثوليكية الخاصة»، مؤكّداَ أنّ «غالبية هؤلاء هم خريجو هذه المدارس»، داعياً إيّاهم الى «المساعدة مادياً لنجدتها وفاءً لما أوصلتهم اليه من مراتب ومكانة»، لافتاً الى أنّهم على ثقة من انّ كثيرين يساعدون، ولكن تلك المدارس ما زالت في حاجة الى مبادرات عدة للمساعدة في إنهاء العجز الكبير جراء الحسومات الكبيرة للاهالي، لافتاً الى «انّ هذه المبادرات ستساعدنا في اقفال العدد الاقل من مدارسنا في مناطق الاطراف»، كاشفا انّ هناك 6 مدارس كاثوليكية ستقفل أبوابها حتى الساعة في الفصل المقبل من السنة، آملا في أن لا يرتفع العدد في السنة المقبلة.

اما الحلّ الثاني فهو، في رأيه، «مساهمة الدولة في تحمّل مسؤولياتها وعدم القول ان لا اموال لديها، ولتخفف الانفاق على الامور التي لا تفوق بأهميتها التعليم الخاص… ولا يمكن الدولة التشريع من دون موافقة اصحاب العلاقة، ولقد حان الوقت للفصل بين التشريع للتعليم العام والخاص.

لمن يقول «استقيلوا»؟

يقيّم عبد الساتر تجربته في مطرانية بيروت التي ستلامس السنة في الشهر المقبل، فيقول: «انّ الاهم بالنسبة لي هو الانسان قبل الحجر والاولوية الشهادة ليسوع المسيح في الاستقامة والمحبة والايمان والتقوى»… كاشفاً عن انه يحاول «بث هذا النَفَس والروحية بطريقة سلسة» بين الكهنة وفي آدائه كمطران لأبرشية بيروت «ولكن الثورة والوباء جعلانا نسير ببطء، الاّ ان من المؤكّد ان لدينا خططاً تغييرية، منها:

– اعادة تقييم عيشنا ككهنة بالنسبة الى خدماتنا الرعوية.

– إعادة تقييم علاقة «الكهنة والمال» وتصويب علاقة الكاهن مع المادة للحرص على العيش ببساطة الكاهن، على أن لا يكون هو «البيك» والشعب كله يكدح في الصخر.

– التقرّب اكثر من الناس، ولكن هذا العمل يتطلب وقتاً وتغيير ذهنية.

الوصية

للمسؤولين يقول: «حافظوا على لبنان محافظتكم على ذواتكم»

لرجال الدين «فلنتذكر من نحن؟ ولماذا وجدنا؟ وما هي رسالتنا؟»

للشعب اللبناني «تضامنوا بعضكم مع بعض واطردوا الفاسد من بينكم مهما علا شأنه ولا تيأسوا».

«اقول اليوم إستقيل لكل مسؤول من المسؤولين يعلم في قرارة نفسه انه تسبب في كلمة او عمل بأذية لأصغر مواطن لبناني، فهؤلاء من يجب عليهم الاستقالة، وانا واثق من انهم يعرفون انفسهم، اما اذا لم يستقيلوا فدينونتهم كبيرة»…