IMLebanon

تسييس كورونا وحرب اللقاحات

كتب مسعود معلوف في “الجمهورية”:

منذ أن خرج فيروس كورونا من مدينة ووهان الصينية وبدأ ينتشر في مختلف بقاع العالم، كان للولايات المتحدة الأميركية نصيب كبير في هذا الإنتشار، وقد تعزّز بسبب تزامنه مع بداية الحملة الإنتخابية الرئاسية الأميركية في مطلع العام 2020 إذ كان الرئيس دونالد ترامب آنذاك يركز بصورة أساسية على الوضع الإقتصادي في البلد، ولم يكن يريد بروز أي تراجع في الاقتصاد الوطني أو تزايد في نسبة البطالة، لتجنّب أي تأثير سلبي على حظوظه في تأمين ولاية ثانية

وتحقيقاً لذلك، كان ترامب يشيع أنّ كورونا هي مجرد نوع من أنواع الرشح وليس لها أهمية تذكر. كما كان يؤكد في مناسبات كثيرة، أن مرض كورونا سينتهي مع قدوم حرارة فصل الصيف، وأن على المواطنين في الولايات المتحدة أن يتابعوا حياتهم ونشاطاتهم الإعتيادية، كما أنه لم يكن يسمح لكبار الأطباء في لجنة محاربة كورونا الحكومية التصريح عن خطورة هذه الجائحة، وعيّن نائبه المخلص له مايك بنس رئيساً لهذه اللجنة للاستمرار في هذا النهج.

نتيجة لهذا التسييس للجائحة، أصبح موضوع كورونا أحد أبرز العناصر في الإنتخابات الرئاسية، إذ كان المرشح آنذاك جو بايدن يكيل الإنتقادات القوية لترامب، متهماً إياه بالتقليل من أهمية الجائحة، وعدم محاربتها مثلما يجب، ومن المرجح جدا أن هذه المسألة كانت أحد أسباب فوز جو بايدن في الإنتخابات

لقد اتّبعت الحكومات في العالم طرقاً مختلفة لمحاربة هذه الجائحة في بداياتها، منها من اعتقد انّ ترك الأمور على حالها من شأنه أن يؤدي الى مناعة المجتمع مثل السويد، ومنها من قرر إغلاق البلاد بالكامل، أو منع التجمعات العامة، وما الى ذلك من تدابير مختلفة، إنما هذه التدابير كانت بمعظمها مبنية على استنتاجات طبية ليس لها نتائج معروفة مسبقا لأنّ هذا الفيروس مستجد وليس هنالك من موقف طبي موحد تجاهه بعد.

مقابل هذه المواقف الطبية المختلفة، حصل بعض التعاطي السياسي مع الجائحة في بعض الدول خارج الولايات المتحدة، ولكن على صعيد أفراد من الشعب وليس على صعيد الحكومات، إذ كنّا نسمع في كثير من الأحيان أخباراً ملفقة عن أنّ الجرثومة تم تطويرها خصيصاً من قبل هذه الدولة أو تلك للقضاء على الأعداء في دولة أخرى، أو للتخلص من المسنّين الذين يكلفون الحكومات أموالاً طائلة، وما الى ذلك من قصص وروايات كانت تتردد في المجتمعات.

أما التسييس المتعمد لجائحة كورونا، فقد برز في الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق ترامب الذي اتهم الصين بعدم إبلاغ المجتمع الدولي في حينه عن بروز هذا الفيروس في احد مختبرات مدينة ووهان، والسكوت عنه الى أن انتشر في العالم، وبدأ ترامب يُطلق عليه تسمية «الفيروس الصيني»، وجعل منه موضوعاً سياسياً جديداً في المواضيع الخلافية الأميركية-الصينية، كما قَلّل من أهميته للإعتبارات الإنتخابية السابقة الذكر.

والخطورة في تسييس هذه الجائحة في الولايات المتحدة تكمن في أنها تَخطّت الحملات الإنتخابية وخرجت عن الإطار الطبي-العلمي البحت، وأصبحت موضوعاً سياسياً بامتياز، إذ انّ عدداً لا بأس به من المنتسبين الى الحزب الجمهوري المؤيدين للرئيس السابق ترامب والذين يدينون له بولاء أعمى لا يؤمنون بخطورة هذا المرض، ويرفضون التلقيح رفضاً قاطعاً.

هذه المواقف النافية أحياناً حتى لوجود جائحة اسمها كورونا وليس فقط لخطورتها قد امتدّت الى مسألة اللقاح الذي تسعى حكومة الرئيس بايدن الى نشره على كافة طبقات المجتمع الأميركي، إذ كيف سيقبل من لا يؤمن بمجرد وجود الجرثومة بأن يتلقح للحماية منها؟ وقد سمعنا الكثير من الشائعات التي تنتشر على وسائل التواصل الإجتماعي، والتي مصدرها ربما أولئك الذين لا يؤمنون بالجائحة، تشيع بأنّ اللقاح هو وسيلة للحصول على معلومات دقيقة عن كل شخص يتم تلقيحه عبر إدخال اسطوانات الكترونية في جسمه من شأنها أن تراقب جميع تحركاته وربما تتمكن من تسييره عن بعد؟ الى ما هنالك من شائعات تدّعي انّ الغاية من اللقاحات هي القضاء على طبقات وفئات معينة من البشر.

الرئيس جو بايدن، بالتعاون التام مع فريقه الطبي المكلف بمحاربة هذه الجائحة، يسعى الى تلقيح أكبر عدد ممكن من المواطنين والمقيمين على الأراضي الأميركية، إذ بلغت حتى الآن نسبة الذين تلقوا اللقاح بجرعتيه ما يزيد عن 20 بالمئة من مجموع السكان، وهذه من أفضل النتائج عالمياً. ويتوقع أن تصل الولايات المتحدة الى درجة مناعة المجتمع بعد أن يتم تلقيح 75 بالمئة من سكان البلاد، ومن المرجح الوصول الى هذه النتيجة مع بداية خريف هذا العام، وسينعكس ذلك بالعودة الى الحياة الطبيعية بصورة تدريجية.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد بدأت التعاطي مع جائحة كورونا عبر تسييسها أيام الرئيس السابق ترامب وعدم إيلائها الأهمية التي كانت تستحقها، فإنّ لبنان تصرّف في ذلك الوقت تصرفاً مسؤولاً، بجدية تامة، بفضل وزير الصحة الدكتور حمد حسن الذي تعاطى مع هذه المسألة الخطرة بطريقة طبية علمية نالت إعجاب الجميع في لبنان، حتى من أخصام الحزب الذي يميل اليه الوزير حسن.

ولكن سرعان ما تغيرت الأمور مع البدء بالتلقيح، هنا أيضاً بعكس ما حصل في الولايات المتحدة حيث تقوم إدارة الرئيس بايدن بتنظيم شراء وتوزيع وتأمين اللقاحات بطريقة متجردة من أية اعتبارات سياسية أو شخصية او مادية، بينما نرى الآن في لبنان شبه فوضى في هذا المجال، ونوعاً من الحرب التجارية بين المستوردين، وتزاحماً بين الراغبين في الحصول على اللقاح، إذ انّ معايير الأفضلية في التلقيح ليست واضحة، وهذا ما يؤدي الى تسابق ومداخلات من المفترض عدم وجودها لمعالجة وباء بهذه الخطورة.

يتساءل البعض لماذا لم تحترم معايير السن والأفضلية للجهاز الطبي والتمريضي التي وضعتها وزارة الصحة العامة في لبنان عند البدء باتخاذ إجراءات التلقيح؟ ولماذا فتح لاحقاً باب استيراد اللقاحات للقطاع الخاص على اختلاف انواعها، ما أدى الى تحديد الأسعار من قبل الشركات المستوردة واضطرار من لا تسمح له ظروفه المادية من شراء اللقاح الى اللجوء للوساطات السياسية؟

المفروض أن تتولى الحكومة اللبنانية مسألة تلقيح السكان بجميع مراحلها، من شراء اللقاح، الى توزيعه على المناطق، وتنظيم عملية التلقيح وفق جدول للأولويات يأخذ بالإعتبار اولئك الذين من المفترض أن يحصلوا على اللقاح أولاً بحسب ظروف عملهم، مثل أعضاء الجهاز الطبي والتمريضي الذين هم على احتكاك مباشر مع المصابين، ومن ثم المسنّين وفق جدولة واضحة لمختلف مراحل التلقيح، وكل ذلك ينبغي أن يكون على نفقة الدولة، ومن دون جعل المواطن يشتري اللقاح من الشركات المستوردة، أو يضطر الى اللجوء الى أصحاب النفوذ السياسي.

هذه العملية ينبغي أن يتم تطبيقها من دون تأخير وبشكل دقيق ومن دون السماح بحصول تجاوزات، على أن تترافق مع حملة توعية شاملة ومفصّلة تشرح للمواطنين أهمية أخذ اللقاح من أجل حماية النفس وحماية الآخرين، ومن أجل السماح بالعودة الى الحياة الطبيعية للبلد، والخروج تدريجاً من الأزمة الإقتصادية الخانقة التي نتجت عن الإضطرار لإقفال معظم النشاطات الإقتصادية، وما نجم عن ذلك من ارتفاع كبير في نسبة البطالة ونقص هائل في مستوى الدخل الفردي.

من الضروري أيضاً أن تشمل حملة التوعية شرحاً عن كل نوع من أنواع اللقاحات المتوافرة، والتأكيد للمواطنين أنها كلها جيدة وفعالة بمجرد حصولها على إجازة تصنيعها من السلطات المختصة في دولها، ولا بد من التأكيد أيضاً على ضرورة أخذ اللقاح المتوفر في أماكن التلقيح مهما كان نوعه، لأنّ أخذ اللقاح، حتى وإن حصلت بعض الإنعكاسات الجانبية لعدد قليل جداً من الناس، يبقى أفضل بكثير من التقاط الجرثومة التي قد تكون مميتة.

نعرف جيداً الى أي مدى فقد المواطن اللبناني ثقته بالمسؤولين بصورة عامة، ولذلك فإنّ وضع خطة مدروسة واضحة المعالم في هذا الإطار، وتطبيقها على الجميع بمساواة تامة، من دون إعطاء أفضلية لأصحاب المراكز والنفوذ على حساب عامة الشعب، قد تشكّل فرصة لاستعادة بعض الثقة بالدولة، وتعطي المواطن اللبناني أملاً بمستقبل أفضل، إذ انّ النجاح في عمل كهذا يعني انّ النجاح في مجالات أخرى أمر ممكن الحصول.

بالرغم من الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان في هذه الأيام، لا يوجد ما يحول دون تمكننا من القيام بهذه الخطة القابلة للتنفيذ إذا ما وجدت الإرادة القوية والجدية لدى المسؤولين عن هذا القطاع الصحي الهام. لقد نجح وزير الصحة في المراحل الأولى من معالجة هذه الجائحة ولا يوجد ما يحول دون تمكّنه من النجاح في مرحلة التلقيح.