IMLebanon

ماذا بعد وقف إطلاق النار في غزة؟

كتب السفير مسعود المعلوف في “الجمهورية”: 

نجحت المبادرة المصرية في تحقيق وقف لإطلاق النار من دون شروط مسبقة بتاريخ 20 أيار الجاري بين إسرائيل وحركة «حماس»، بحيث أوقفت إسرائيل غاراتها الجوية التي أسفرت عن مقتل أكثر من 230 مواطناً فلسطينياً في قطاع غزة، من بينهم عشرات الأطفال والنساء، كما أوقفت «حماس» قصفها الصاروخي على مدن في إسرائيل، والتي أسفرت عن مقتل 12 إسرائيلياً من بينهم طفلان، علماً أنّ هذه العمليات العسكرية المتبادلة دامت أحد عشر يوماً.

لا شك أنّ الخسائر المادية والخسائر في الأرواح التي تكبّدها الفلسطينيون تفوق بكثير الخسائر الإسرائيلية، إنما الصمود الفلسطيني القوي في وجه إسرائيل، رغم القصف الممنهج بأحدث الوسائل الحربية للأبنية وسائر المنشآت المدنية والبنى التحتية في غزة، وكذلك وقوف الفلسطينيين صفاً واحداً في مختلف الأراضي المحتلة في مواجهة القوى الأمنية الإسرائيلية، كلّ ذلك شكّل نقطة تحوّل كبرى في التعاطي الدولي مع القضية الفلسطينية، وفي نظرة الإسرائيليين عموماً الى هذه القضية.

كيف يمكن قراءة هذه التطورات ونتائجها على الأرض: أولاً، على الصعيد المصري: لقد أثبتت مصر أنّها دولة قادرة على لعب دور هام في ما يجري في الشرق الأوسط، وأنّ لها كلمة مسموعة لدى كل من الإسرائيليين والفلسطينيين. صحيح أنّ مصر تعاني من ظروف صعبة سواء اقتصادياً أو إقليمياً، خصوصاً بالنسبة الى ما يجري في شأن سدّ النهضة وعلاقات مصر المتوترة مع إثيوبيا في هذا الملف الحيوي لمصر. ولكن هذا النجاح النسبي للديبلوماسية المصرية سيعطي هذه الدولة بعض الزخم في مفاوضاتها المحتملة بالنسبة الى مشكلة سدّ النهضة، كما أنّه سيلمّع صورة الرئيس عبد الفتاح السيسي بعض الشيء، في مقابل إنتقادات دولية يتعرّض لها في مسائل تقييد الحريات العامة وخصوصاً حرّية التعبير. وجدير الإشارة هنا، إلى انّ الرئيس الأميركي جو بايدن اتصل هاتفياً بالرئيس السيسي لتهنئته على هذا الإنجاز، علماً أنّ هذه هي المرة الأولى التي يتصل فيها بايدن بالرئيس المصري منذ تسلّمه الرئاسة في العشرين من كانون الثاني الماضي. يُضاف الى هذا النجاح المصري، عرض الرئيس السيسي تقديم مساعدات مالية بقيمة 500 مليون دولار للمساهمة في إعادة تعمير غزة، بعد الدمار الكبير الذي سبّبته الغارات الإسرائيلية المتكرّرة.

ثانياً، على الصعيد الفلسطيني: نظراً للخسائر الكبرى التي تكبّدها الفلسطينيون في الأرواح وفي الممتلكات، واحتمال حصول المزيد من هذه الخسائر، لا شك أنّ للفلسطينيين مصلحة قوية في تحقيق وقف لإطلاق النار لوضع حدّ لهذا النزف، ولكن بالرغم من كل هذه الخسائر، لا عجب أن رأينا السردية الفلسطينية تشدّد على نصر حققه الشعب الفلسطيني أمام الغارات الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، وكذلك أمام عمليات القمع العسكري للمتظاهرين المدنيين العزل. كما أنّ وقف إطلاق النار من دون شروط مسبقة، أي من دون أن يلتزم الفلسطينيون بأي أمر باستثناء وقف القصف الصاروخي على الأراضي الإسرائيلية، يعني انتصاراً لهم في وجه أقوى جيش في المنطقة والمدعوم بالسلاح والمال من أقوى دولة في العالم. إذ أنّ إسرائيل لم تتمكن من تحقيق أي هدف سياسي، بل نجحت فقط في قتل مدنيين، من بينهم الكثير من الأطفال والنساء، ما حمل المجتمع الدولي على توجيه النداء بعد الآخر لوقف القصف على المدنيين. أما الإنتصار الفعلي الذي حققه الفلسطينيون بالرغم من الخسائر الفادحة التي تكبّدوها، فهو أنّ القضية الفلسطينية عادت الى واجهة القضايا الدولية، وتوحّد الشعب الفلسطيني سواء في الأراضي المحتلة أو في المدن المختلطة. والملفت هنا هو انّ الرئيس السابق دونالد ترامب كان حاول دفن هذه القضية عبر ما سُمّي «صفقة القرن»، فكانت النتيجة انّ هذه الصفقة توفيت في الثالث من تشرين الثاني، يوم خسر ترامب الإنتخابات الرئاسية، ودُفنت في حي الشيخ جراح في العاشر من أيار يوم بدأت الإنتفاضة الفلسطينية الرابعة. ومن نتائج هذه الإنتفاضة أيضاً، أنّها خلقت عطفاً على الشعب الفلسطيني وقضيته، بعد أن كان هذا الشعب منسياً وليس موضع اهتمام من قِبل المجتمع الدولي، كما أنّها، بالرغم من الإنتقادات التي وُجّهت لحركة «حماس» على قصفها العشوائي لمدن إسرائيلية، أوجدت بعض الإهتمام بالسكان المدنيين في قطاع غزة الذين تعرّضوا لأهوال القصف الإسرائيلي والدمار لمنازلهم. ولدى مشاهدة مناظر الأطفال الأبرياء والنساء يُدفنون تحت أنقاض المباني التي دمّرتها إسرائيل بقصف وحشي، بدأ العالم ينظر إليهم نظرة إنسانية بعد أن كانوا مصنّفين كإرهابيين.

ثالثاً، على الصعيد الإسرائيلي: بالرغم من محدودية الخسائر الإسرائيلية في الأرواح والممتلكات، كان لإسرائيل أيضاً مصلحة في الوصول الى وقف لإطلاق النار من أجل إيقاف القذائف الفلسطينية على بعض المدن الإسرائيلية، مع ما رافق ذلك من خوف وهلع لدى السكان الإسرائيليين، خصوصاً أولئك الذين انتقلوا منذ فترة غير بعيدة من دول غربية للسكن في إسرائيل ولم يكونوا يتوقعون مثل هذه الظروف. كما أنّ هذه التطورات الخطيرة ستحول دون قدوم المزيد من اليهود للسكن الدائم في إسرائيل، وهذا ما سيعرقل تحقيق الحلم الإسرائيلي في استقدام أكبر عدد ممكن من اليهود للسكن في إسرائيل وتعزيزها ديمغرافياً مقابل التزايد الطبيعي للسكان العرب. هذه التطورات أظهرت أيضاً فشل أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي تدّعي أنّها من أفضل الأجهزة في العالم، إذ لم تتمكن من توقّع مثل هذه المواقف الفلسطينية الصامدة، كما أنّها فشلت في تحديد قدرة حركة «حماس» المحاصرة منذ سنين عديدة في غزة، على تملّك واستعمال هذا الكمّ الكبير من الصواريخ، وذلك بالإضافة الى أنّ ما تسمّيه إسرائيل «القبة الحديدية» التي من شأنها مبدئياً تعطيل 90% من الصواريخ الموجّهة نحو الأراضي الإسرائيلية، لم تتمكن من حماية السكان بما فيه الكفاية.

رابعاً، على الصعيد العربي: اقتصرت المواقف العربية عموماً، بما فيها موقف جامعة الدول العربية، على إصدار بيانات تنديد لما قامت به إسرائيل بحق الفلسطينيين، من دون اتخاذ أي إجراء عملي. وقد برزت هنا بوضوح المواقف العربية المتباينة بين الدول التي ما زالت على موقفها العدائي لإسرائيل، وتلك التي طبّعت علاقاتها مع الدولة العبرية، كون الدول المطبّعة لم تستعمل علاقاتها الجديدة مع إسرائيل للضغط عليها لوقف الغارات الجوية على قطاع غزة، أو لوقف قمعها للشعب الفلسطيني المنتفض على الإحتلال.

خامساً، على الصعيد الدولي: شهدت مواقف الدول الأوروبية تقدّماً ملموساً حيال الشعب الفلسطيني، وقد ظهر ذلك عبر تصاريح غير مسبوقة، فيها انتقاد واضح للقصف الإسرائيلي على الفلسطينيين، وإن ترافق ذلك مع انتقاد موازٍ لحركة «حماس»، ونداءات متكرّرة من دول أوروبية ومن الأمين العام للأمم المتحدة تدعو الى وقف إطلاق النار والى المطالبة بالتوقف عن قصف المدنيين الأبرياء، مع تعاطف نسبي مع الشعب الفلسطيني. وقد رحّبت هذه المرجعيات بوقف إطلاق النار، ومنها من طالب بالسعي لاحقاً الى إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية، وفي ذلك تقدّم هام بالنسبة الى الفلسطينيين.

سادساً، على الصعيد الأميركي: لقد فاجأت هذه الأحداث الإدارة الأميركية الجديدة المنشغلة بشؤونها الداخلية في مكافحة جائحة كورونا، وتلقيح عشرات الملايين من الأميركيين، بالإضافة الى السعي الى تفعيل الإقتصاد الوطني، وتبنّي قوانين لإعادة تأهيل البنى التحتية، في ظلّ معارضة قوية من اعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس لمشاريع الرئيس بايدن، هذا بالإضافة الى جهود الإدارة الأميركية لمعالجة الخلافات القوية القائمة مع روسيا والصين. فقد اضطر الرئيس بايدن الى إعادة النظر بأولويات سياسته الخارجية، وخصّص جهداً لمعالجة هذا الوضع الطارئ، واتصل برئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو مرات عدة، وأبلغه أنّه يؤيّد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في الوقت الذي لم يتمكن فيه الناطق الرسمي بإسم وزارة الخارجية الأميركية الردّ بوضوح عن سؤال حول حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم. كما أنّ الرئيس بايدن أوفد الى المنطقة نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون إسرائيل وفلسطين الديبلوماسي هادي عمرو لتهدئة الأجواء، ومع أنّ السيد عمرو لم يدلِ بأي تصريح عن نشاطه أو لقاءاته، إلّا أنّه يبدو أنّه لعب دوراً ملموساً في الوصول لوقف إطلاق النار. يبدو هنا انّ الرئيس بايدن كان مسايراً لإسرائيل في العلن بينما شدّد لاحقاً في مكالماته الشخصية مع نتنياهو على ضرورة تخفيف حدّة العمليات العسكرية.

وفي كلمة مقتضبة أمام وسائل الإعلام بعد إعلان وقف إطلاق النار، أوضح بايدن انّه تحدث مع كل من الرئيس السيسي ونتنياهو وعباس، شاكراً الجهود التي بُذلت من أجل وقف القصف المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مكرّراً أنّ الولايات المتحدة تؤيّد بالكامل حق إسرائيل في حماية نفسها من صواريخ «حماس» ومجموعات إرهابية أخرى في غزة. ومن أهم ما قاله بايدن في هذه الكلمة المقتضبة، قناعته انّ «الفلسطينيين والإسرائيليين يستحقون بالتساوي العيش بأمن وسلام والتمتع بالحرية والإزدهار والديمقراطية»، مؤكّداً أنّ إدارته ستستمر في العمل الديبلوماسي الهادئ والدؤوب لهذه الغاية.

المهم أنّ وقف إطلاق النار بين إسرائيل و»حماس» ليس غاية نهائية بحدّ ذاته، إذ أنّ تجدّد القتال محتمل وقوعه في أي وقت، إن لم يتمّ وضع حدّ لممارسات إسرائيل القمعية للشعب الفلسطيني نتيجة لاحتلال أرضه، وتشريد السكان وطردهم من منازلهم. ولن تتوقف تلك الممارسات وردّات الفعل الفلسطينية عليها، ما لم يتمّ إيجاد حل شامل للقضية، بإنشاء دولة فلسطين المستقلة وبتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه كاملة، أسوة بسائر شعوب العالم. إنّ حلاً كهذا لا يمكن أن يتمّ من دون أن يكون للولايات المتحدة دوراً فاعلاً لتقريب وجهات النظر، ربما بالتعاون مع روسيا والأمم المتحدة، إنما الدور الأساسي للوصول الى الحل النهائي يعود للولايات المتحدة، كونها الداعم الأكبر والأقوى لإسرائيل، ما يمكنها من ممارسة بعض الضغوط على الدولة العبرية للتخفيف من مواقفها المتصلبة تجاه هذه القضية المحقة. يبقى السؤال البديهي: هل الرئيس بايدن جاهز للقيام بهذا الدور الذي يتطلب جهداً ووقتاً كبيرين؟

المؤشرات الحالية تدل الى أنّ لإدارة بايدن أولويات داخلية وخارجية قد تحول دون تمكّنها من صرف الجهد المطلوب لهذه الغاية. وقد يكون بايدن حاول الآن وقف التدهور في المنطقة عبر اتصالاته مع نتنياهو لتجنّب التشويش على المفاوضات الجارية في فيينا لعودة الولايات المتحدة الى الإتفاق النووي التي هي إحدى أولويات الرئيس الأميركي، كما أنّه يود معالجة علاقات بلاده المتوترة مع كل من الصين وروسيا، وذلك بالإضافة الى الأولويات الكبرى في الملفات الداخلية. ولكن ينبغي أن لا تحول هذه الإنشغالات الهامة دون البدء بالتحرّك تجاه هذه القضية المزمنة، إذ يستطيع بايدن تشكيل وفد برئاسة ديبلوماسي كفوء يعرف المنطقة ومشاكلها بالتفصيل، للبدء بالمشاورات والتحركات بين الأفرقاء، لوضع الأسس والقواعد التي يمكن أن تكون مناسبة لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين، على أن يتدخّل الرئيس شخصياً في الموضوع، بعد أن يكون قد أحرز تقدّماً في الملفات ذات الأولوية لإدارته.

وقد يساعد في ذلك الضغوط المتنامية على الإدارة في الكونغرس ولدى قسم من الرأي العام، بمن فيهم يهود أميركيون مؤيّدون عادة لإسرائيل. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، هل ستسمح إسرائيل بأي تقدّم في هذا المجال أم أنّها ستحاول العرقلة عبر اختلاق عقبات وصعوبات، مثلما فعلت في الماضي، حيث أفشلت مساعي الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عقود من الزمن؟ لقد أشار الرئيس بايدن في كلمته على أثر وقف إطلاق النار، إلى حق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام والتمتع بالحرية والإزدهار والديمقراطية، كما أنّه شدّد في حملته الإنتخابية على اهتمامه الكبير والجدّي بحقوق الإنسان، وأثار هذه الأمور بعد تسلّمه الرئاسة مع القيادات الصينية والروسية، وما عليه إلاّ أنّ يشدّد على ذلك بالجدّية نفسها مع القيادة الإسرائيلية، كي لا يُعتبر موضوع حقوق الإنسان عذراً للتدخّل في شؤون دول أخرى، ولكنه يتوقف عندما يصل الى عتبة إسرائيل.