IMLebanon

رفيق الحريري… ذكرى نادرة في زمن الانحدار

رفيق الحريري… لا شك في أن هذا الاسم بات أكبر من منصب أو مركز أو رئاسة حكومة. هذا الاسم، على عكس كثير من تلك التي كان لوطن الأرز موعد معها على مدى مئويته الأولى، أكبر بكثير من أن يختصر في بعض كلمات تدوّن في سجل حياة لبنان وتاريخه المديد. إنه بحق البطل السياسي والمارد الاقتصادي الذي لن يقوى الزمن على جرفه إلى غياهب النسيان وبحر الأفول. بدليل أن 17 عاما مرت على ذاك الاثنين المزلزل الذي غاب فيه رفيق الحريري عن دنيا الفناء… إلا أنه لا يزال يملأ الدنيا ويشغل الناس.. من عليائه.

في ذاك اليوم من شهر شباط، كان من المفترض أن يحتفل اللبنانيون بعيد الحب. لكن مع المجرمين وأصحاب الأجندات السود التي لا تريد للبنان حياة هانئة مستحقة بعد طول اقتتال، لا مكان للفرح والحب… الأصح أن لا مكان إلا للموت والقتل والسواد والحزن.

في يوم عيد الحب، سقط رفيق الحريري شهيدا في قلب المدينة الأحب على الاطلاق إلى قلبه: بيروت التي لم يقو على رؤيتها مدمرة، وبعيدة عن الحياة السياسية. فما كان منه إلا أن أطلق ورشة إعادة إعمار العاصمة، من خلال شركة سوليدير. في هذه المرحلة من حياة المقاول الحائز على “عملة نادرة” تتمثل في ثقة العائلة المالكة السعودية، بعدما كانت له اليد الطولى في تنظيم مؤتمر الطائف الذي أنهى الصراع العسكري اللبناني- اللبناني، كان الهدف واضحا: إعادة لبنان إلى حياة فقدها في مرحلة “حروب الآخرين” وإعادة وضعه على الخريط العالمية والعربية.

غير أن أحدا لا يشك في أن انتصارا عمرانيا من هذا النوع في بلاد كتلك التي نمضي فيها أعمارنا اليوم لا يمكن إلا أن يستثمر في السياسة والاقتصاد… سريعا، تحولت ورشة إعادة ضخ الحياة في عروق الوسط التجاري والعاصمة اللبنانية ككل إلى ورقة سياسية لعبها الحريري الأب بحنكة وذكاء ليتحول رقما صعبا لا يمكن أن تتجاوزه المعادلات السياسية الكبيرة كما الصغيرة منها. هكذا تحول رفيق الحريري من مقاول ورجل أعمال سني، إلى رئيس حكومة مرحلة ما بعد الحرب اللبنانية، على وقع السقوط المدوي الذي منيت به حكومة الرئيس عمر كرامي، بفعل ثورة الجياع التي أشعلها ارتفاع سعر صرف الدولار . على أي حال، تعددت أسباب الثورة الشعبية والنتيجة واحدة: خرج عمر كرامي من السراي الحكومي ليدخلها من الباب العريض رفيق الحريري، الآتي على صهوة الجواد السوري- السعودي والمؤمن بأن “لو دامت لغيرك ما وصلت إليك””، الشعار الذي لا يزال حتى اليوم يستقبلك عند مدخل مقر رئاسة الحكومة، التي تحولت بحق مرادفا لشخصه في مرحلة تسعينيات القرن الماضي. على أن رفيق الحريري، صاحب الحلم الكبير للبنان النهوض الاقتصادي، ملأ الادارات والوازارات والمؤسسات الرسمية برجال ونساء من ذوي الخبرة والكفاءة والشجاعة، وراهن على الشباب، وعلى علمهم وثقافتهم وطموحهم، ليكونوا نبض الوطن العائد إلى الحياة، أعطى الحياة السياسية نكهة خاصة لا يمكن أن ينكرها عليه أحد لا الحلفاء ولا الخصوم ولا حتى التاريخ: الاعتدال السني، بينما كانت طبول الحرب على الارهاب والتشدد تقرع من كل حدب وصوب.  وإذا كان كثيرون لا يزالون يتذكرون  مقولته الشهيرة “ما حدا أكبر من بلدو”، فإن مقولة أخرى تبدو بدورها عصية على النسيان: “وقفنا العد”، قالها الحريري في لحظة سياسية خاطفة ليكرّس مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في بلد التعايش والـ18 طائفة، حيث ينتخب الرئيس المسيحي الوحيد في بلدان عربية ذات أكثرية سنية ساحقة تحكم معظمها ديكتاتوريات قائمة منذ عقود. وإذا كان بعض معارضي الحريرية السياسية يعيرونها في هذا المجال بمرسوم التجنيس الشهير الذي أقر عام 1994 وأعطى الجنسية اللبنانية لعدد كبير من الناس، جلهم من الطائفة السنية، فإن هذا لا ينفي أن الحريري الذي سطع نجمه السياسي في زمن تغييب القيادات المسيحية عن المشهد السياسي للأسباب المعروفة، أكد مرارا أن “المسيحي المعتدل أقرب إلي من المسلم المتطرف”، وفي ذلك محاولة متجددة للتأكيد على الدور المسيحي في لبنان وحياته وبقائه.

بالتـأكيد، لم يخطر في بال العملاق الحريري أن دورة الأيام ستدور على المشهد المحلي ليفرز قيادات ستخاطر بلعب ورقة كبيرة وخطيرة بحجم طرح علامات الاستفهام حول اتفاق الطائف وصون الحقوق المسيحية، خصوصا بعدما كان الحريري قدم نموذجا لافتا من التعاون والتعايش الاسلامي المسيحي، عندما كان رفيق سيد بكركي البطريرك التاريخي نصرالله صفير في النضال ضد الإحتلال السوري في لبنان، والتمديد للرئيس إميل لحود في خريف العام 2004. وفي السياق، لا بد من التذكير بأن قرار التمديد هذا جاء غداة صدور القرار 1559 الذي ناضل له رفيق الحريري وصديق عمره وبلاده الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ونظيره الأميركي جورج بوش، الرجلين اللذين ساعدا لبنان ماديا ومعنويا عند منعطفات كبيرة… بفضل رفيق الحريري وعلاقاته الدولية والعربية المتشعبة التي جعلته زعيما وخصما شريفا وصديقا نديا لكبار أهل القرار في المنطقة والعالم.

على المقلب الآخر، أطاح القرار الدولي المذكور علاقات لبنان والحريري مع دمشق بدليل الاجتماع العاصف الشهير بين الأسد والحريري، حيث تلقى الأخير تهديدا صريحا بتكسير البلد “على راسو” في حال عارض التمديد للرئيس اميل لحود، الذي أخرجت الخصومة العنيفة معه الزعيم السني من السراي في أواخر العام 2004، لتنطلق بذلك جولة جديدة من المعركة ضد الإحتلال السوري… إلى أن حل 14 شباط 2005، وتلاه 14 آذار، لتخرج سوريا على دماء الحريري… وصرخات المليون لبناني واكثر، الذين احتشدوا في ساحة الشهداء مطالبين بالحرية والحقيقة والسيادة والاستقلال.

17 عاما مرت على لبنان وهو يبحث عن بديل لرفيق الحريري، صاحب الخيارات المثيرة للجدل، والذي قد لا يجده يوما. وإذا كان أهم ما  جرى في خلال السنوات الكثيرة هذه يكمن في ثورة 17 تشرين ووصول المحكمة الدولية إلى الحلقة الأخيرة من مسلسلها الطويل، فإن الأخطر يكمن في أن التاريخ يبدو وكأنه يعيد نفسه. ذلك أن المعركة السيادية بين الحريرية والممانعة لا تزال على أشدها، وقد دفع هذا المحور الرئيس سعد الحريري إلى خارج الحلبة المحلية، للمرة الأولى منذ العام 2005، لأسباب شخصية وسياسية، فكيف ستنطلق المرحلة المقبلة من المواجهة؟ الجواب قد يأتي بعد انتخابات 15 أيار المقبل…