IMLebanon

ظروف التسوية في لبنان بدأت تنضج… ولكن!

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

إستسلمت القوى السياسية اللبنانية وبشكل كامل امام المُعطى القائل إنّ حل الازمة الرئاسية في لبنان لا يمكن ان يحصل الّا بتسوية خارجية كبرى، فالنوافذ الداخلية أُحكم إغلاقها في وقت فاحت فيه رائحة المصالح الخارجية التي تسعى لاستعمال اوراقها في لبنان في عز المشاريع القائمة لإعادة إنتاج خارطة سياسية جديدة في الشرق الاوسط. واستطراداً، إن البحث الداخلي لحلول رئاسية لا يبدو مفيداً، وبالتالي فإن القراءة الصحيحة تبدأ من التطورات الدولية.

وخلال الاشهر الماضية حصل تطور سياسي ضخم أدى الى هزّة حقيقية على الساحة السياسية الدولية، والمقصود هنا رعاية الصين للمصالحة السعودية – الايرانية. صحيح ان اتفاق بكين أُشبع درساً وتحليلاً خلال المرحلة الماضية، لكن ثمة اهدافاً اساسية شكلت دافعاً قوياً لإنتاج الاتفاق عند الدول الثلاث. ايران التي تعاني اقتصادياً وباتت تخشى على استقرار نظامها تريد فك قيودها الاقتصادية. والسعودية التي حققت فورة مالية هائلة، وتتحضّر لدور جديد تريد إقفال الجرح اليمني المفتوح والذي هدد أمنها الداخلي. والصين، في اطار صراعها القائم مع الولايات المتحدة الاميركية، تسعى لإجهاض محاولات تطويقها وحصرها. وبالتالي، التمدد سياسياً الى الشرق الاوسط عبر دول الخليج والتي عرفت تاريخياً كمنطقة نفوذ امنية صافية.

لكن الاجواء الاحتفالية المبالَغ بها في بعض الاحيان، خصوصا من جانب ايران، والتي واكبت الاعلان عن الاتفاق، حَدّدت اليمن كساحة اختبار ملزمة قبل الانطلاق في اي خطوة اخرى. وبخلاف السلوك السعودي السابق، فإن ولي العهد الامير محمد بن سلمان رسمَ نهجاً جديداً. صحيح ان السعودية اعلنت عن وجود نية لإقامة استثمارات سعودية ضخمة في ايران، لكن الرياض اشترطت ان يأتي ذلك في اطار سياسة الخطوة مقابل الخطوة، اي ان الرياض ستتحرك بعد تحقيق النتائج المطلوبة في اليمن ووفق نسبة موازية. يومها، قال ديبلوماسيون سعوديون ان الرياض متفائلة بالتوصّل الى نتائج عملية على الساحة اليمنية ولو ان التجارب التاريخية تدفع السعودية للحذر.

في المقابل، إن ايران تعتبر بأن إنجازاتها العسكرية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين لا بد من «تقريشها» سياسياً والحفاظ على مكتسباتها طالما ان الاوضاع تفرض الذهاب الى مرحلة «فك اشتباك» وتعليق العمل العسكري. ولأنّ اليمن يشكل ساحة الاختبار الاولى، فإنّ ايران تدرك بأن السعودية تنتظر تنازلات «حوثية» تسمح لها بالانتقال الى مراحل اخرى. لكن التنازلات التي تفهمها ايران قد تكون مختلفة عن تلك التي تعنيها السعودية. فإيران التي ترى في انجازاتها اليمنية «هدايا» نادرة ولا تقدّر بثمن، خصوصاً على مستوى السيطرة على الممرات المائية للشريان النفطي الخليجي، لا تبدو مستعدة لتنازلات جوهرية وهو ما يبدو واضحاً حتى الآن. فطهران تريد ان تكون تنازلاتها العسكرية في اليمن «شكلية» أكثر منها فعلية، وتطال المضمون وتراهن على الوقت، وهو الاسلوب الذي اشتهرت به المدرسة التفاوضية الفارسية لإنهاك محاوريها ودفعهم في نهاية المطاف للقبول بعروضها. وحتى الآن توحي الصورة في اليمن بأن الرهان الايراني قائم على عامل الوقت كي تبقى التنازلات في الاطار الشكلي اكثر منه في الاطار الفعلي العميق.

وهذه القراءة تفسّر الى حد بعيد السلوك السعودي في الملف اللبناني، والذي يغلب عليه الثوري والمواقف المحايدة على المستوى الرسمي المعلن، ولكنه مختلف على المستوى الضمني وغير المعلن، وهو ما يجعل البعض يتحدث عن وقت طويل سيمر قبل الشروع في انجاز التسوية الرئاسية. وقد يكون هذا الاستنتاج صحيحاً لو بقي في هذا الاطار الضيق. لكن ثمة عوامل اخرى لا تقل اهمية قد تدفع لتحريك الملف اللبناني.

ففي العام 2019 كانت ايران قد باشرت عبر الحوثيين باستهداف شركة ارامكو السعودية النفطية العملاقة ما ادى الى حصول اضرار على مستوى الاسواق العالمية للنفط. صحيح ان الدفاعات الاميركية لم تعمل لصد الهجمات الصاروخية التي كانت تطال العمق السعودي، لكن واشنطن اعتبرت ان استهداف أرامكو يعتبر تخطياً للخط الاحمر المرسوم والمتعلق بإمدادات النفط العالمية. اضف الى ذلك ان ايران كانت في وضع هجومي ناجح على مستوى ساحات الشرق الاوسط جميعها. وجاء الرد الاميركي كبيراً في الثالث من شهر كانون الثاني 2020 من خلال اغتيال قاسم سليماني، والرسالة جاءت واضحة بعدم تخطي الخطوط الحمر مرة جديدة وايضا بضرورة عدم الذهاب بعيداً في توسيع نفوذ ايران في الشرق الاوسط.

فهمت ايران الرسالة جيداً ما دفعها الى جانب ظروف اخرى للتخفيف من حدة سلوكها وتقدمها العسكري لصالح التفاوض السياسي.

صحيح انّ الرئيس السابق دونالد ترامب، المعروف بتهوّره، هو مَن سمح بالضربة، لكن من المعروف ايضا ان الدولة العميقة ومؤسساتها هي من حَضّر الملف وقدمته لترامب ليتبنّاه. ومنذ مدة غير بعيدة أوكَلت واشنطن قرار رسم سياستها في الشرق الاوسط الى وزارة الدفاع والمؤسسات الامنية على حساب الدور الذي كانت تحتكره وزارة الخارجية.

وباشرت القيادة العسكرية الاميركية في اعادة رسم الدور الاميركي، والذي يؤكد عدم خروج واشنطن من المنطقة لا بل على العكس. وبدءاً من المغرب الذي يتحضّر جيشه لمشروع شراكة بالكامل مع الجيش الاميركي مروراً بمصر ووصولاً الى الشرق الاوسط فإنّ واشنطن تعمل على تركيز نفوذها في الساحات التي تعتبر مداخل للشرق الاوسط، والساحة اللبنانية تعتبر إحداها. ولأن هذا الحضور لا يجري بناؤه على قاعدة التصادم والصراع العسكري مع ايران، بل على قاعدة ضبط حدود المصالح، انطلقت ادارة بايدن في مشروع ترتيب اتفاق نووي رديف يسمح بإراحة جزئية للاقتصاد الايراني. وليس من باب المصادفة ارتفاع شحنات النفط الخام الايراني عبر السوق السوداء الى أعلى مستوياتها منذ خمس سنوات رغم العقوبات. فلقد تجاوزت الصادرات مليون ونصف مليون برميل يومياً في شهر ايار الماضي، وهو أعلى معدل منذ العام 2018، وهو مرشّح ايضاً للارتفاع اكثر خلال الاشهر المقبلة. وهذا لا يعني بالتأكيد انفراجاً نهائياً للاقتصاد الايراني، خصوصا ان البنية التحتية للطاقة الايرانية وللحركة الاقتصادية غير متوفرة، لكنها تؤكد على غض النظر الاميركي لتأمين انفراج جزئي تفهَم طهران جيداً معناه.

اضف الى ذلك الضغط الاميركي الهائل على اسرائيل وترك مخازن الجيش الاميركي داخل اسرائيل في ادنى محتوياتها من سلاح وذخائر. الرسالة الاميركية واضحة بأنها ترفض اي تحرك عسكري اسرائيلي ضد ايران، واسرائيل تعرف معنى ذلك جيداً.

إذاً، في المنطقة ثمة ورشة قائمة بعيدا عن التداول الاعلامي قد تدفع بالملف اللبناني ليصبح فجأة على الطاولة.

وعلى سبيل المثال، بدأت في الكواليس تحضيرات لإنجاز حل في ادلب شمال سوريا. وهذه التحضيرات تدور بين دمشق وطهران وموسكو من جهة وتركيا وواشنطن من جهة اخرى، والسعودية ليست بعيدة عنها.

صحيح انّ هذه التحضيرات ستأخذ وقتها حول الاثمان السياسية ومشروع التسوية السياسية وتقاسم الدولة الجديدة، لكنه قابل ايضاً لأن يَطال الساحة اللبنانية التي يجب ان تكون مستقرة لكي تعمد على تأمين ظهر التطورات العسكرية في حال انجاز الصفقة السياسية. وهو ما يعني بطبيعة الحال إنجاز التسوية الرئاسية في لبنان وفق المواصفات التي اوردناها سابقاً. ولذلك، هناك من يستعيد وقائع تبادل الخدمات السياسية بين العواصم في المنطقة، والتي كان من ابرزها تكليف سوريا بلبنان في العام 1990.

وفي حادثة ثانية في العام 2010 في عزّ ما عُرف بالسين – سين، اي التفاهم السعودي – السوري، يومها طلبت السعودية وساطة دمشق للتدخل لدى طهران وإقناعها بوصول اياد علاوي الى رئاسة الحكومة العراقية. لكن ايران «كَسفت» الاسد، وأمنت وصول نوري المالكي ما أغضَبَ الملك السعودي الذي أُجهض السين – سين.

والمقصود بما سبق امكانية ان تؤدي دمشق دوراً مرة جديدة لصالح اعادة الاستقرار الى لبنان على هامش «مفاوضات ادلب»، وهي التي تحظى بعلاقات ممتازة مع «حزب الله» وطهران وايضاً سليمان فرنجية لصالح الطرح الذي تحمله واشنطن.

امّا حول «طموح» «حزب الله» بالذهاب الى مؤتمر تأسيسي، فإنّ ظروفه غير متوفرة في المرحلة الحالية، خصوصاً وسط واقع داخلي في لبنان غير ملائم لـ»حزب الله». وطالما ان التسوية الآتية ستكون تسوية موقتة لعدة سنوات وهي ليست نهائية، فيمكن لـ”حزب الله” الاقتناع بتأجيل «طموحه» السياسي الى حين التسوية النهائية في لبنان، خصوصاً انّ طهران معنية بالانفراج الاقتصادي كما دمشق.

ما يعني ان التسوية في لبنان بدأت ظروفها تنضج، لكن السؤال يبقى: ولكن متى سيحين الوقت؟