IMLebanon

لغز عبد اللهيان وإشارات هوكشتاين

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

إزدحم فجأة برنامج الزوار الاجانب الى لبنان بعد اسابيع عدة لا بل أشهر من الركود والجمود في ملف الازمة السياسية والرئاسية والتي تهدد عمق الكيان اللبناني. وعدا الزيارتين المثيرتين للموفد الرئاسي الاميركي آموس هوكستين ووزير الخارجية الايراني حسين امير عبد اللهيان، ينتظر لبنان زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لو دريان، والذي لم يحدد بعد موعدها في مهمته الاخيرة التي ما تزال غامضة المعالم حتى الساعة. وينتظر لبنان ايضاً زيارة سيقوم بها موفد قطري الى لبنان في العشرين من الجاري، وقد بوشِرت الاتصالات لتأمين برنامج مواعيده والموفد سيكون على الارجح المسؤول الامني، والذي كان قد زار لبنان مع وفد بلاده الثاني، وهو ما يعني ان قطر ستتوغّل أكثر في مسارها العملي، بعدما وجدت انّ المناخ الاقليمي اصبح اكثر ملاءمة لذلك.

فالوفد الاول، والذي غلب عليه الطابع السياسي، كانت مهمته استكشافية، اما الوفد الثاني والذي شارك فيه المسؤول الامني الذي كان قد تولّى فتح الطريق امام اتفاق الدوحة عام 2008، كانت مهمته عملانية لا استكشافية. وبات معلوماً ان قطر ستتولى مهمة مواكبة الحل اللبناني والاشراف على تطبيقه لاحقاً، بالتفاهم الكامل مع السعودية وبقية اعضاء اللجنة الخماسية. وهذا ما يفسّر انخراط قطر في الشراكة النفطية في بحر لبنان وشراء حصص الشركة الروسية، فالمسألة سياسية اكثر منها تجارية. وكذلك تعيين سفير جديد لها يحظى بعلاقات قربى بالعائلة الحاكمة، ما سيمنحه حضوراً اكبر وبالتالي مهمة أوسع واكثر حيوية مستقبلاً.

كذلك على «الاجندة» الدولية الاجتماع الثلاثي الدولي المهم الفاتيكاني ـ الاميركي ـ الفرنسي في الفاتيكان برعاية ومشاركة امين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين ومسؤولين اميركيين وفرنسيين كبار طابعهم عملي. صحيح انّ هذا الاجتماع سيكون مخصصاً للملفات الدولية الخطيرة مثل الحرب الدائرة في اوكرانيا والوضع الاوروبي، الّا ان الملف اللبناني سيكون في طليعة الملفات المطروحة وهو ما يتمسّك به الكاردينال بارولين الساخط على انانية الطبقة السياسية اللبنانية ولا سيما منها المسيحية وصاحب مقولة «اننا هذه المرة لن نتعب ولن نيأس من مساعدة لبنان على ايجاد حل».

هي اجندة دولية مزدحمة توحي أن شيئاً ما قد تحرك على المستوى الدولي وتحديداً على مستوى الشرق الاوسط، أدّى الى انضاج المناخ ما يسمح بفتح الابواب اللبنانية الموصدة. وهو ما أوحى به الوزير الايراني عند وصوله الى بيروت حين بادرَ وتحدث عن سماعه من المسؤولين السعوديين تصريحات ايجابية وبناءة في شأن دعم لبنان، وهو ما يعني ان الوضع في لبنان اخذ حيّزاً من محادثاته في السعودية. وموقف عبداللهيان هنا يخالف الاسلوب المتحفظ الذي اعتمده خلال زياراته الثلاث السابقة الى بيروت، والتي كان آخرها في ايار الماضي.

والاهم إن زيارته هذه المرة كانت وجهتها الاساسية بيروت وهو ألحقها بزيارته دمشق، فيما كانت زياراته الثلاث السابقة وجهتها الاساسية دمشق وكانت محطته البيروتية ملحقة لها. وهو ما معناه انه جاء لوضع الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في خفايا وخبايا زيارته الى السعودية والتطورات على المستوى الدولي. لكن النفحة التفاؤلية لعبد اللهيان مع وصوله الى بيروت لم تكن بالدرجة نفسها في مؤتمره الصحافي لدى مغادرته لبنان، وهو ما فتح باب الاجتهاد حول مضمون المحادثات التي اجراها مع نصرالله، خصوصا لجهة مقاربة بعض التفاصيل. فعلى المستوى الدولي ثمة اقتناع بأنّ ايران وضعت الملف اللبناني في سياق «مشرحة» اعادة رسم خريطة النفوذ السياسي في المنطقة كونها الطرف المعني الذي يتولى التفاوض مع الاميركيين حوله، وهي القادرة على ترتيب الاثمان. والخريطة مفتوحة على غاربها من اليمن والممرات المائية للثروة النفطية وهو ما يعيد الانتعاش للاقتصاد الايراني المتهالك، مروراً بالاستقرار الامني الايراني وبالتالي معالجة ملف المعارضة الكردية ـ الايرانية وفصائلها المتمركزة في كردستان بالقرب من الحدود مع ايران، واعادة ترتيب المعادلة في سوريا انطلاقاً من التطورات الميدانية الحاصلة، واخيراً وليس آخراً الساحة اللبنانية. وربما هذا ما دفع بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى مهاجمة ايران وتصنيف تدخلاتها بأنها تسبّب عدم استقرار جيرانها في المنطقة ومنهم لبنان. وهجوم ماكرون تأكيد اضافي على وجود «صفقة» كبرى في المنطقة بين طهران وواشنطن ادت الى وضع باريس جانباً على رغم من وقوف فرنسا الى جانب «حزب الله» في الملف اللبناني.

في الواقع قدرة المقايضة على مستوى الشرق الاوسط تمسك بها واشنطن دون سواها. وكان لافتاً ان يترافق تخفيف «العيار» التفاؤلي لعبد اللهيان عند مغادرته بيروت مع اعلان الامين العام لـ»حزب الله» عن اجتماعه بنائب رئيس حركة «حماس» صالح العاروري وامين عام حركة «الجهاد الاسلامي» زياد النخالة، وصدور بيان عن «حماس» يتحدث عن تقييم الوضع في الضفة الغربية وتصاعد حركة المقاومة فيها، وهو الجرح الذي تعاني منه اسرائيل حالياً.

من الواضح انّ نصرالله يشهر هذه الورقة التي لديه حصة فيها. لكن التزامن اللافت بين زيارتي هوكشتاين وعبد اللهيان الى بيروت والتي تنفي المصادر الايرانية ان تكون مقصودة، يوحي أن ثمة ورشة كبرى قائمة في المنطقة.

من هنا يمكن استخلاص الاشارات الثلاث لزيارة كبير مستشاري الرئيس الاميركي لشؤون الطاقة الى بيروت. الاشارة الاولى بتخصيص رئيس مجلس النواب نبيه بري وحده من دون سواه من المسؤولين اللبنانيين بخلوة لمدة عشرين دقيقة. لم يحصل ذلك لا مع رئيس الحكومة او رئيس السلطة التنفيذية ولا مع اي شخصية اخرى، وهو ما يعني ان الرسائل الاميركية السرية خلال خلوة الثلث ساعة وجهتها شيعية وليست رسمية لبنانية. والاشارة الثانية يمكن القول انها ملحقة بالاولى ولو من الناحية الشكلية، مع صور «الترويقة» عند صخرة الروشة وهي منطقة ليست بعيدة عن الضاحية الجنوبية، والتي استتبعها بصورة اوضح تعبيراً من بعلبك، منطقة نفوذ «حزب الله» والقريبة من الحدود مع سوريا. وتعمّد هوكشتاين ان يظهر بطريقة ايجابية وتفاؤلية. اما الاشارة الثالثة فجاءت مع الصورة حول طاولة العشاء في حديقة منزل قائد الجيش. ومن النادر ان يعمد موفد اميركي على هذا المستوى او سفير على توزيع صورة له حول طاولة العشاء. وهو ما يعني وجود رسالة واضحة، خصوصاً انّ الخبر الرسمي وزّعته السفارة الاميركية قبل انتهاء العشاء مع نصٍ من الواضح انه جرى اعداده مسبقاً يتحدث عن عشاء عمل مثمر مع قائد الجيش. وان «تفاني الجنود ذوي الكفاية العالية» أمر بالغ الاهمية لأمن لبنان واستقراره. وهي كلمات جرى انتقاؤها بعناية ودلالاتها واضحة بما فيه الكفاية، بحيث تصل الى جميع الاطراف من دون اي تأويل.

وثمة مؤشر اكبر حول الواقع اللبناني والذي أتى مع سماح الصين وخصوصا روسيا بصدور صيغة التمديد لقوات «اليونيفل»، على رغم من معارضة «حزب الله». صحيح ان قائد القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان لم يطبّق هذا القرار خلال السنة الماضية وهو ما يرجّح استمراره السنة المقبلة، الا ان تثبيت هذه الصيغة له دلالاته وسط عدم اعتراض صيني وروسي. وهو ما يعني ان خطوط التواصل الديبلوماسي بين واشنطن وموسكو وبكين تعمل جيداً، وانّ الحرب العنيفة الدائرة في اوكرانيا وشد الحبال القوي مع الصين لا يعنيان انسحاب الخلاف على ترتيب رقعة المصالح في الشرق الاوسط ولبنان. وقد يكون على لبنان ان يقرأ ذلك جيداً، اضافة الى تنحّي روسيا جانباً في شمال سوريا حيث النزاع الميداني يستعر، فالتحرشات الجوية الاميركية ـ الروسية توقفت منذ اسابيع عدة رغم التهاب المعارك والتي تحمل طابع اعادة ترتيب النفوذ على الارض.

ولكن كل تلك الصورة الصاخبة لا تعني ان تحقيق الاختراق السياسي المطلوب في لبنان بات قريباً. يمكن القول ان شيئا ما بدأ، لكن موعد النتائج ما يزال غير واضح. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فمن المفترض مراقبة المسار الميداني للمعارك الدائرة في شمال سوريا، ومآل التحركات الشعبية في جنوب سوريا للبناء عليها لبنانياً. فالنتائج هناك تؤثر مباشرة على التسوية ومعادلاتها في لبنان.