IMLebanon

مغامرون عند الحدود… في هذه القرية أربعة أشخاص وكاهن

كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:

في كنف الحروب ترعرعوا ووسط غياب الدولة نشأوا. مواطنون مع وقف التنفيذ. ذنبهم أنهم مقيمون على حلبة صراع مشبوكة بحزام من التوتّرات الإقليمية المزمنة. يجاورون القضايا والنزاعات الكبرى ولا رأي لهم فيها سوى البقاء رغم الخطر الدائم أو الرحيل الموقّت. ينزحون بخجلٍ وصمتٍ. لا يجيدون فنّ البكاء على حيطان المنظّمات وطرق أبواب الجمعيات والوقوف في طوابيرها. يواجهون النار والموت والإهمال والتهجير ثمّ يستأنفون الحياة. مرّ الكثير والكثيرون عليهم.
يستمدّ أهالي القوزح ودبل وعين إبل ورميش قوّتهم من جذورهم العتيقة وبيادر أجدادهم المجبولة بالعرق والدموع والدماء والأفراح والذكريات بحلوها ومرّها. حصدت المعارك مواسم الزيتون والمزروعات كالتبغ والقمح وغيرها من لوازم الصمود، لكنّها لم تحصد عزيمتهم.

4 أشخاص… وكاهن

تتفاوت أرقام النازحين والباقين والأضرار بين بلدة وأخرى حسب حماوة الميدان ونيل حصّتها من القصف الإسرائيلي. في القوزح، تلك الضيعة الصغيرة والجميلة، حيث تتحلّق منازلها القليلة، القديمة والجديدة حول كنيستها، لم يبقَ فيها سوى أربعة أشخاص فقط: تيريز نجم وشقيقتها، رِفعَت أبو الياس وزوجته. لكنهم غير متروكين أو منسيين. معهم كاهن الرعية الأب طوني حنّة (من دبل) الذي يزورهم كلّ يوم لتفقّدهم وتأمين حاجياتهم رغم القصف وطائرات الإستطلاع.

الراعي لا يهتمّ بخطرٍ من أجل قطيعه. «لن أترك رعيّتي» متسلّحاً بدرع الإيمان، يتمسّك بوصيّة سيّده «لا تخافوا». يمرّ الكاهن الشجاع بجوار البيوت الباردة والمهجورة قسراً. في هذه الأيام الكانونية، كانت طيبة الأهالي وحرارة محبّتهم تُدفئُ حجارتها وزواياها وعتباتها، كما مدافئ الحطب وفَوْح الدخان المتصاعد من المداخن فوق السطوح يُعطّر رائحة الشتاء. بحرقة ينظر إلى الحقول التي باتت مزروعة بالقذائف والصواريخ بدل مواسم الفلّاحين. يسمع أنين الغائبين والمتلهفين شوقاً إلى ديارهم إلى الأزقّة والشوارع والجلول. وفيما المعارك تعصف بجنونها جنوباً، يأخذ الأب حنّة معاناتهم ويقدّمها إلى مذبح كنيسة مار يوسف الأثرية، محتفلاً بالذبيحة الإلهية كلّ يوم حتّى لو كان وحيداً. «يُقدّس» على نيّة لبنان والسلام ووقف الحروب.

أمّا باقي «القوازحة»، فأجبرتهم الحرب التي ليست حربهم وخوفهم على أولادهم على ترك قريتهم. 7 عائلات نزحوا إلى رميش و54 إلى مناطق جبل لبنان. هم في عهدة المختار قيصر رزق الذي يزورهم ويطّلع على أحوالهم وتأمين المساعدات الغذائية والماديّة غير الحكومية لا سيّما من قبل «كاريتاس» وبعض الجمعيات الأخرى. يضحك عندما نسأله عن الدولة. فهي «غائبة عن أحوالنا كما في الجنوب كذلك في بيروت». نزوح المختار عن بلدته لم يمنعه من متابعة المستجدات بالتنسيق مع أب الرعيّة. ورغم القصف شبه اليومي على محيط القوزح، اقتصرت الأضرار حتّى الآن على المزروعات والأشجار والمواسم وبعض التصدّعات وتكسير الزجاج في البيوت.

بعد غصن الزيتون… ما مصير شتلة التبغ؟

في دبل، نزح نحو 150 عائلة، وبقي فيها حوالى 350 عائلة، نسبة مرتفعة مقارنة مع القرى المجاورة. معظمهم من الشباب خصوصاً الذين يخدمون في الأسلاك العسكرية (الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي والأمن العام). رئيس بلديتها خليل حنّا على تواصل دائم مع المقيمين. يتابع مع خلية الأزمة مستجدّات البلدة وشؤون النازحين خارجها. غالبية المساعدات تأتي عبر الجمعيات الكنسية مثل «كاريتاس» و»سوليداريتي» التي رافقت السفير البابوي باولو بورجيا أثناء زيارته القرى المسيحيّة في الشريط الحدودي أكثر من مرّة، إضافة إلى مساهمات جمعية «نورج» والـWORLD VISION التي قدّمت لبعض العائلات 60 دولاراً.

الحرب تقطع الأعناق والأرزاق. مواعيد زيارتها كانت كارثيّة، في عزّ لقمة عيشهم: الزّيت والتبغ. كانت دبل تنتج سنويّاً أكثر من 600 تنكة زيت، بينما في «تشرين الأقصى» لم تتخطّ الـ40 تنكة! صحيح أن شحّ الموسم الحالي ساهم في تخفيض الإنتاج، غير أنّ المعارك والقصف ساهمت في عدم تمكّن الأهالي من التوجّه إلى أراضيهم لقطف الزيتون. ضاع «غصن السلام»، والعين على «شتلة البقاء» التي فقدت من قيمتها مع الأزمة الاقتصادية المستمرّة منذ 4 سنوات.

في هذا الإطار، يقول نادر زينِة أحد المزارعين الصامدين: «في هذا الشهر، نُشيّد مشاتل التبغ وتتمّ العملية بحراسة الأرض بالفأس ومن ثم تمشيطها بالمشط الزراعي من أجل رشّ البذور، وبعد شهرين تقريباً تُنزع النبتات المناسبة وتُزرع في الأراضي الواسعة لتنمو وتعطي أوراقها. زرعنا المشاتل وقمنا بواجبنا تجاه أرضنا التي لم تبخل علينا يوماً». يضيف أنّ «التحدّي الأبرز هو الواقع الميداني في حال استمرّت المعارك. إذ لن يتمكّن الكثيرون من زراعة كلّ حقولهم عندما يحين الموعد بين آذار ونيسان».

ويوضح زينِة: «على سبيل المثال، من كان ينتج حوالى ألف كيلوغرام في الموسم، سينخفض الرقم إلى ما دون النصف، وسينعكس سلباً على دورته الاقتصادية ويخسر كثيراً من مدخوله الوحيد الذي كان يتكل عليه في سبيل تأمين معيشته من أقساط مدرسية وغيرها، آملاً أن تتوقف الحرب وأن يتمّ تعويض الخسائر ورفع سعر الكيلو من 6 دولارات إلى 8 أو 9 دولارات».

في السياق، أشار رئيس البلدية خليل حنّا إلى أنه خلال تواصله مع المدير العام لإدارة حصر التبغ والتنباك ناصيف سقلاوي، كشف أنّ «الريجي» ستنشئ مشاتل للتبغ في منقطة الجيّة، على أنّ يتمً نقل النبات إلى القرى الحدودية بعد شهرين»، لافتاً إلى أنّ هذه العملية رهن التطورات العسكرية. أمّا رميش وعيتا الشعب وعيترون فتشكّل النسبة الأكبر في زراعة التبغ حيث خسائرها كبيرة جدّاً نظراً لتعرّضها للقصف اليومي.

للإعتداءات الإسرائيلية إنعكاسات عديدة لا تقتصر على الخسائر المباشرة والآنية، بل تتعداها لتشمل الآثار الطويلة الأمد لا سيما البيئية منها. هذا الملفّ يتابعه المحامي مارون هاشم (عضو بلدية دبل) مع بعض المهندسين المدنيين والمختصّين. وفي تصوّر أوّلي، تتضح جملة أمور للتخفيف من وطأتها واتخاذ إجراءات معيّنة وهي:

1 – إستحداث قاعدة بيانات بإستخدام أنظمة المعلومات الجغرافية Geographic information system (GIS) لتخزين وتحديث المعلومات المتعلقة بالإعتداءات الإسرائيلية وذلك بالتعاون مع الجهات المعنية لا سيّما «اليونيفيل». الجدير بالذكر هو أنّ وجود قاعدة البيانات يجعل من الصعب على السلطات الإسرائيلية نفي الإتهامات الموجهة إليها باستخدام أسلحة محرّمة دولياً. ومن المعلومات الواجب جمعها هي: لحظة الإعتداء، الموقع المستهدف والإحداثيات.

2 – بعد انتهاء العمليات الحربية، تبدأ خطوة المسح الميداني والكشف على الأضرار أكانت المتعلّقة بالثروة النباتية والحيوانية أو بالإنشاءات والبنى التحتية أوّ المياه الجوفية والتلوث الهوائي. فالمسح الميداني يؤكد طبيعة الإعتداء والكشف عن الأضرار يؤسس لمعالجتها.

3 – بدء العمل على معالجة الأضرار كافة وذلك بالتعاون مع المؤسسات الرسمية والمجتمع الأهلي. فالمعالجات الإنشائية كالتدعيم، تكون تحت إشراف مهندس إنشائي، فيما معالجة التربة (بيولوجية، كيميائية إلخ) تكون تحت إشراف مهندس بيئي. في هذا الإطار، لا تزال بعض المزروعات كالعنب والصبّير والتيّن وغيرها من الأشجار المثمرة تعاني من أضرار وأمراض منذ حرب تمّوز 2006.

هذه الخطوات قد تبدو بديهية للوهلة الأولى ولكنها تحمل في طيّاتها الكثير من التعقيدات. تجدر الإشارة إلى أن العديد من المنشآت (المنازل، المحال التجارية، خزّانات المياه…) على الرغم من سلامتها، تتأثر نتيجة القصف البعيد نسبيّاً من موقع الإعتداء، فتتكشف على المدى القصير والبعيد أضرار غير إنشائية كالنشّ. وأبرز مثال على ذلك الأضرار الناتجة عن حرب تمّوز حيث لم تتمّ معالجتها حتى الآن.