IMLebanon

لهذه الأسباب لم يكن ضرورياً مرور هوكشتاين ببيروت

كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:

كاد بعض اللبنانيين ان يُصاب بالهلع عندما أُعلن مساء الاثنين الماضي أنّ الموفد الاميركي عاموس هوكشتاين قد عاد من تل أبيب الى واشنطن من دون المرور ببيروت. فالمعنيون بالمفاوضات يدركون أنّه أمر لم يكن مقرّراً وقد لا يكون ضرورياً. وهو ما يوحي أنّ زيارته لإسرائيل كانت كافية، ولا تفرض عليه جولة مكوكية. وانّ ما كان مطلوباً منها قد أُنجز فعاد الى مكتبه. وهذه هي الأسباب والمؤشرات.

استغربت مراجع ديبلوماسية لبنانية واميركية ردّات الفعل غير الضرورية التي رافقت عودة هوكشتاين من تل أبيب الى واشنطن، ورأوا في ما نُشر منها أحكاماً مسبقة لا تستند الى ما يمكن أن يُنبئ بفشل الرجل في مهمّته. فهم يدركون دقّتها وما فيها من حساسية مفرطة نتيجة الوضع الدقيق في المنطقة وليس في لبنان فحسب. ولذلك فقد حمّلت بعض وسائل الاعلام مسؤولية التعاطي مع الزيارة تأسيساً على معلومات غير دقيقة تمّ الاستناد إليها. وفي علمهم أنّ كل ما بُني على أحلام ورغبات وأمنيات لا يمكنه ان ينتج سوى مثيلات لها من دون ان ترقى الى مرتبة الملموس من وقائع.

ولهذه الاسباب أسهبت المراجع اللبنانية منها، في شرح الظروف التي دفعتها الى عدم إعطاء اي ردّ فعل سلبياً كان أم إيجابياً تجاه ما رافق تجاهل هوكشتاين بيروت، ذلك أنّ ليس هناك أي مسؤول لبناني كان ينتظر مثل هذه الزيارة على الإطلاق، ومن تسرّع في توقّعها والحكم عليها يتحمّل المسؤولية وحيداً. فهوكشتاين ولما غادر بيروت قبل عشرة ايام تقريباً، لم يكشف عن محطاته وخطواته المقبلة، واطار تحرّكه، رغم سعيه الى نوع من «اتفاق الإطار» الذي يمكن أن يؤسس عليه لتلك المراحل المقدّرة، وقد فهم الرسالة اللبنانية كاملة، وهي لم تخضع لأي تعديلات او «عملية تجميل» كما يعتقد البعض، وهو بات يتفهّم وجهة نظر لبنان، وإن لم يتوافر لديه أي جواب او تفسير إضافي يدفع الى اي تعديل متوقّع، ويمكن ان يلاقي الموقف اللبناني في مكان ما في ظلّ خلو سدّة الرئاسة من شاغلها، فلا حاجة للعودة وربما يكتفي عندها بإعطاء اشارة هاتفية تغنيه عن زيارة.

وأضافت المراجع المطلعة على كثير من خفايا ما هو مطروح، أنّ هوكشتاين بات على اقتناع ثابت أنّ ما هو مطلوب منه يتوقف على ما يمكن ان يحققه في اسرائيل، وهو الذي يمكن أن يعدل في نشاطه. فالموقف اللبناني بُني على مجموعة من الثوابت التي سبقت الأحداث الحالية وخصوصاً تلك التي نشأت بعد أحداث 7 تشرين الاول الماضي، وقد حفظها كاملة، وهي تقول بالخط العريض انّ الفرصة سانحة للبناء عليها إن اراد سلاماً مستداماً وأمناً شاملاً وتسوية تاريخية، كتلك التي قال انّه وإدارته يسعيان إليها. وهي تؤسس لسنوات مقبلة من الهدوء والاستقرار. وملخّصها يتوقف عند ثلاثة عناصر اساسية، أولها وقف شامل لإطلاق النار، ووقف الخروقات التي سُجّلت بالآلاف منذ صدور القرار 1701 طالما انّه شكّل معبراً اجبارياً لوقف ما يجري اليوم من عمليات عسكرية. وثانيها انسحاب لبنان واسرائيل من النقاط المتحفظ عنها على طول الحدود الجنوبية، من تلال شبعا وكفرشوبا وخراج بلدة الماري الى الناقورة. وثالثها إظهار الحدود الدولية والاستغناء عمّا يسمّى «الخط الأزرق». ذلك أنّ البحث في بقية النقاط التفصيلية والجزئية المتفرعة منها يتحول امراً تنفيذياً عند البتّ بهذه العناوين الكبرى.

ولفتت المراجع الى أنّ هوكشتاين ومن سبقه من الوسطاء الدوليين كما المعنيين من مسؤولي الامم المتحدة، هم على علم بمثل هذه الملاحظات اللبنانية القديمة ـ الجديدة على دقّتها. ومن رافق المفاوضات التي سبقت القرار الاخير للتمديد لقوات «اليونيفيل» في 30 آب العام الماضي سمع هذه الطروحات من الوفد اللبناني الذي أمضى أياماً عدة في نيويورك قبل صدور القرار. وقد طُرحت هذه النقاط من ضمن «صفقة سلام شاملة» تقدّم بها وزير الخارجية عبدالله بوحبيب أمام رؤساء البعثات الديبلوماسية كافة، بهدف تجاوزالتعديلات المقترحة على قواعد الاشتباك المتشددة التي أُريد لها ان تكون في متن القرار الجديد للتمديد لهذه القوات.

ولاحظت المراجع عينها، انّ هذه التوضيحات التي تحدث عنها لبنان في حينه، دفعت ببعض المعنيين الأمميين ومعهم هوكشتاين، إلى استذكار ما دار في المرحلة الاخيرة من عملية «الترسيم البحري» عندما تجمّدت المفاوضات حول مصير النقطة «بي 1» التي تحفّظ لبنان عنها متمسكاً بموقعها السابق قبل التعديلات الاسرائيلية منذ ان رُسمت الحدود بين لبنان وفلسطين عام 1923، قبل أن يتدخّل هو شخصياً ويعلّق ما تمّ التفاهم بشأنه في إطار المفاوضات وتحديداً حول الخط 23 ومعه خط الطفافات، إن لم تطوَ الملاحظات حول هذه النقطة. وكان له ما أراد في أن تنتهي تلك المرحلة بقبول لبناني في أن يبقى خط الطفافات كما هو كأمر واقع لا يمكن ان يقرّ به لبنان بصورة ثابتة ونهائية. فإسرائيل التي عدّلت في موقع النقطة «بي 1» على حدودها الحالية ونقلتها شمالاً الى مسافة لا تزيد على 18 متراً من موقعها التاريخي، لا يمكن تكريسها دولياً طالما أنّ «الشاهد» عليها ما زال قائماً بوجود «قاعدة» حاجز الأمن العام اللبناني من الباطون المسلح في مكانها جنوب نفق القطار عند عبوره تلة الناقورة، ولم تمحها التعديلات الاسرائيلية التي أجرتها على اوراق الخرائط، ولم تسقطها من حساباتها وتريد إقراراً لبنانياً بالتعديل، وهو ما لم ولن يحصل لا اليوم ولا غداً.

وإلى هذه الملاحظات، تستطرد المراجع الديبلوماسية لتقول انّ هوكشتاين مطلع على كل ما تحقّق على مستوى «الصفقة» الجاري تحضيرها في المنطقة منذ وضعها في لقاء باريس «الرباعي المخابراتي»، والتي يسعى وزير خارجية بلاده انتوني بلينكن الى تسويقها في جولته الاخيرة، وقد بلغ آخر محطاتها أمس في اسرائيل في أجواء ملبّدة بالمواقف المتناقضة في الداخل الاسرائيلي، قياساً على حجم الانقسامات حتى ضمن «حكومة الحرب» وما بين نتنياهو ومعارضيه. ولذلك، فإنّ من الطبيعي أن يتريث هوكشتاين في طرح اي جديد يتصل بصفقة منفردة تتناول الجبهة الشمالية لإسرائيل مع جنوب لبنان، بمعزل عن وجود النية الاميركية بالفصل بين الأزمات المختلفة التي تركتها ترددات أحداث السابع من تشرين الأول الماضي، مهما توسّعت ساحاتها وتعّددت جبهاتها. فإن صحّ انّ واشنطن لم تعترف بعد في قرارة نفسها بالترابط المنطقي في ما بينها، فهي مقتنعة بقدرتها على فكفكة البعض منها بصفقات ثنائية او ثلاثية يمكن القيام بها. ولا سيما منها تلك التي يمكن معالجتها من بوابات اخرى بعيدة كل البعد من قطاع غزة، وكذلك منها تلك المتصلة بالملف النووي الايراني الذي يمكن من خلال التقدّم في مساره ان تقطف واشنطن اكثر من طريدة، سواء في اليمن او في لبنان وسوريا والعراق.

عند هذه الملاحظات وما يمكن أن يتفرّع منها، لا ترى المراجع اي اهمية عند البحث في أسباب عدم مرور هوكشتاين ببيروت، وربما أُلغيت زيارات موفدين آخرين يلامسون المعطيات عينها، ويعملون للهدف عينه، طالما انّهم وحتى اليوم قد نقلوا الرسائل نفسها ولو بلغات متعددة.