IMLebanon

بعد اللبنانيين… السوريون على أبواب السفارات

«من الشام… اللبنانيون يعانون قساوة السفارات»، هذا العنوان كان الأنسب وكان ليصحّ لو أجريتُ تحقيقاً مماثلاً في الثمانينات. إنّما المعادلة بين التاريخ والجغرافيا التي فرضتها خريطة الشرق الاوسط الجديد تعكس العنوان، والاحداث التي عاناها اللبنانيون في الماضي في دمشق للحصول على تأشيرة دخول، والتي يعيشها السوريون اليوم المتوسّلون امام السفارات الاجنبية في لبنان، تدفع الى الاسترسال في توصيف معاناة اللبنانيين في الماضي والسوريين اليوم.

الجولة الاستقصائية على السفارات الاجنبية في لبنان تذكّر بالرحلات الشاقة و«الخرافية» التي خاضها اللبنانيون، وغامر فيها بعض الشبّان اللبنانيين أثناء توجّههم الى دمشق قاصدين السفارات الأجنبيّة.

فمَن لا يتذكر تلك الحقبة، خصوصاً أنّ في بيت كل لبناني قصة من قصص القمع التي مارَستها في حقه كإنسان السفارات الاجنبية في العاصمة السورية أيام الثمانينات، ولم ينسَ اللبنانيون معاناتهم للحصول على الـ«فيزا»، إن لم نقل على ورقة اللوتو الأشهر والأثمن بالنسبة اليهم آنذاك، وربما، قد تكون حتى اليوم، بعد عودتها الى الواجهة لتغدو المرتجى الاخير بالنسبة الى غالبية السوريين وبعض اللبنانيين.

هذا المسلسل الذي عانى اللبنانيون منه وما يزالون على ما يبدو، يتذوقه اليوم بالإضافة الى النازحين خيرة من الشبّان والمواطنين السوريين بمَن فيهم الاطباء والمثقفين والاساتذة الذين ينتظرون عند أبواب السفارات في لبنان.

جولة ميدانية

بدأتُ جولتي على السفارات من جل الديب مركز السفارة الكندية حيث لم أجد مرآباً لركن سيارتي فركنتها «على الطريقة اللبنانية»، آملة ألّا يسطّر في حقي ضبط مخالفة سير اضافي، إلّا انني تَنبّهتُ الى أنّ السفارة الكندية لم تكترث أيضاً للأماكن التي يمكن أن يركن فيها مواطنوها، وأقول مواطنيها بعدما تبيّن لي أنّ اعمال السفارة الكندية المولجة تقديم المساعدات او التأشيرات إلى الاجانب واللبنانيين انتقلت إلى فردان فيما مبنى السفارة في جل الديب مخصّص للمواطنين الكنديين فقط.

عدتُ أدراجي أنا و»كومة» من المواطنين الذين لم يعلموا بالترتيبات الجديدة، فسألني احدهم وهو قادم من الشوف عن طريقة الحصول على «فيزا»، متذمّراً من وضعه وبأنّه لا يجد عملاً ينصفه في وطنه ولا يجد أفقاً لتحقيق آماله في المستقبل، إذ لا أمن، حسب تعبيره، ولا أمان، وقد باحَ بأنّ رفاقه وأقاربه من الطائفة الدرزية سبق لهم أن تقدموا للحصول على تأشيرة لدخول كندا لكنهم لم يوفّقوا بعد.

أكمَلت جولتي في اتجاه الرابية، مركَز السفارة الالمانية، بعد معلومات عن كثافة غير مسبوقة لعدد طالبي التأشيرة من سوريا ولبنان أيضاً، خصوصاً الشبّان من الطائفة الشيعية، حسبما روى لي بعض روّاد السفارات والشبّان المتجمّعين الذين التقيتهم. فلم أعرف من أين ومع مَن.

ضجيج الانتظار

السوريون يملأون المكان والارصفة. يحاولون الاحتماء من الشمس، لكنهم لا يجدون سقفاً يتظلّلون به. منهم من أحضرَ أطفالاً وأولاداً لا تتجاوز أعمارهم السنوات.

البعض ينتظر وقوفاً في «زاروبة» لا يتخطّى عرضها المتر، أما طول الصف فلا يتجاوز الأمتار الستة، «يَنزَرك» فيه المواطنون بمختلف جنسياتهم ومناصبهم وانتماءاتهم، جميعهم قدموا لأخذ موعد للمقابلة فقط لكي يعودوا في وقت تُحدّده السفارة في اتصال معهم. يطول الانتظار ويطول اكثر عندما يعودون، فمنهم من ينتظر من السابعة صباحاً وحتى الساعة التاسعة مساء.

كسباً للعلم فقط!

يقال إنّ السفارة الالمانية هي أكثر السفارات الاوروبية منحاً للتأشيرات. وتقول السيدة هبة. م. وهي لاجئة سورية مقيمة في لبنان حضرت الى السفارة محاولة الحصول على تأشيرة طالب لإبنها، إنها تريد ايصاله الى المانيا كسباً للعلم فقط ولا يهمّها كل ما يحصل ولا طمع لها في البلد، وليس لها أطماع في لبنان ولا في الخارج. بدأت بالصلاة والبكاء طالبة الدّعاء لابنها ليتوفّق في المقابلة، وقد انتظرته في الخارج وهي تصلّي.

مثيلات هبة كثيرات، وللجميع حكايات يَحتار المرء أين يكتبها. إذ يبدأون بسَرد تفاصيل لجوئهم الى لبنان ويصفون استضافة اللبنانيين لينتقلوا بعدها الى سرد الظروف التي دعتهم الى اختيار السفر الى اوروبا.

أثار انتباهي رجل اربعيني يراقب تَنقّلي بين الجموع المنتظرة مسترقاً الاستماع الى حديثي مع بعض الرجال والنسوة والجميع من الجنسية السورية. فتقدّم نحوي معرّفاً عن نفسه بأنه يملك مكتب سفريات في سوريا ويؤمّن التأشيرات للطلاب والاهالي والاساتذة غير المهاجرين، موضحاً أنّ المهاجرين يقصدون مكتب الامم المتحدة في وسط بيروت للحصول على اللجوء، لافتاً إلى أنّ اكثرية الطلبات، وعلى رغم إعلان الدولة الألمانية عن استعدادها لقبول آلاف طلبات اللجوء، لا تزال منذ أكثر من تسعة اشهر تقبع في أدراج الامم المتحدة.

في السفارة الألمانية

صاحب مكتب خدمات للطلاب السوريين أوضح لـ«الجمهورية» أنّ نسبة قبول طلبات الطلاب تقارب الـ70 في المئة، فيما يأتي الرفض مُرفقاً بعبارة «غير مؤهل للدراسة في المانيا». امّا بالنسبة الى تأشيرات الزيارات، فهي مرفوضة بالمطلق فيما تأشيرات اللجوء لا تمنحها السفارة الالمانية مباشرة بل بواسطة مكاتب الامم المتحدة في بيروت.

ويقول صاحب مكتب الخدمات السوري الذي رفض الكشف عن اسمه إنه قرأ إعلانات عن «مكاتب تقديم طلبات لجوء للسفارات الأجنبية»، إلّا أنه اكتشف بعدما قصدها أنها مكاتب «للتنصيب» لأنه لا يوجد تقديم خدمات للهجرة مباشرة من السفارات انما عبر التوجّه الى مكاتب الامم المتحدة، فيما يؤكد المعلنون غير الملمّين بالأمر أنهم دجّالون، مشدداً على ضرورة تَنبّه اللبنانيين والسوريين في آن معاً الى كثرة هذه الاعلانات بعدما تأكّد بنفسه نتيجة الاتصال بهم مباشرة أنّ الهدف من اعلاناتهم «النصب» على اللاجئين والاحتيال على اللبنانيين في آن معاً.

امّا بالنسبة الى طلبات «لَمّ الشمل»، فأشار إلى أنّه من الممكن تقديمها مباشرة للسفارة لكنها متوقّفة حالياً في ظل وجود طلبات قدمت منذ اكثر من 10 أشهر وما زالت عالقة، لافتاً الى سوء في تنظيمها بسبب كثافتها والضغط القائم.

وعن الطلبات الجديدة للسوريين، أوضح صاحب المكتب أنّ السفارة لا تُحدّد مواعيد قبل حزيران في الوقت الذي تعتبر الدولة الالمانية دولة «الطَلبة» وهي تضمّ مليوني طالب وجامعاتها ضخمة قابلة لاستقطاب أعداد كثيفة من الطلاب شرط أن يؤمن الطلاب كفالة مادية معينة او كفالة مصرفية او كفيلاً من المانيا، والطالب بذلك لن يحتاج الى طلب اللجوء سوى الذي لديه عائلة في سوريا ويريد استدعاءها.

ولاحظ صاحب المكتب أنّ السفارة الالمانية هي الوحيدة التي تمنح تأشيرات دخول للسوريين، فيما يصف التعامل مع بقية السفارات بأنه «سيئ جداً» وأنّ اكثرية الطلبات المقدمة اليها مرفوضة.

ولجهة السفارة الاوسترالية، لفت صاحب المكتب إلى أنّ المواطنين لا يعرفون كيف يقدمون طلباتهم اليها وهي معقدة جداً بالنسبة الى السوريين. أمّا السفارة الكندية فشروطها لقبول الطلاب صعبة جداً، وكذلك الامر بالنسبة الى السفارة الاميركية، لأنّ الطلاب يُرفَضون حتّى لَو قدموا شهادة

الـ Tofel.

السفارة البريطانية

ويقول صاحب مكتب الخدمات نفسه انه تقدم بطلب لطبيب تخديرٍ معروف ولامع في سوريا وهو مُقتدر وقد أرفق طلبه بشهادة تقدير منحه إيّاها رئيس الجامعة البريطانية التي درس فيها بالإضافة الى دعوة وترحيب، فقدّم طلب تأشيرة للسفارة البريطانية إلّا انه رُفض، مع الاشارة الى انّ قبول التأشيرات في بعض السفارات يعتمد على الشكل وعلى المظهر وأحياناً يخضع لمزاجية الموظف الذي يُجري المقابلة.

لبنانيون

مواعيد اللبنانيين تبدأ بعد انتهاء مواعيد السوريين، وهم أيضاً كثر ولا يزالون يتوقون الى السفر. لَفتني سيدة قادمة من الجنوب من الطائفة الشيعية تنتظر ابنها وقوفاً مُمسكة بالحاجز الحديدي الفاصل بين المواطنين والشبّاك المربع الصغير لمبنى السفارة غير آبهة بالشمس الحارقة.

قالت انها جاءت برفقة ابنها بعدما تقدّم للسفارة لطلب تأشيرة طالب، كاشفة أنّ قريبتها في القرية التي تقيم فيها نصحتها بذلك بعدما تقدّم ابنها المتفوّق في الدراسة بطلب تأشيرة طالب، فتمّ استدعاؤه وبعد المقابلة الشخصية وافقوا على طلبه وهو غادرَ منذ مدة قصيرة الى المانيا.

وأكدت هذه السيدة أنها تأمل بدورها في أن يقبل طلب ابنها لأنها لا تحبّذ بقاءه في لبنان في هذه الظروف الامنية ولا تريد له الانخراط في الاحزاب، خصوصاً انه توّاق الى العلم.

واشارت إلى أنها علمت، خلال زياراتها للسفارة، أنّ حصّة الطائفة الشيعية في قبول طلبات التأشيرات مرتفعة بنسبة عالية، وأنّ نسبة الشبّان الذين يطلبون تأشيرات دخول للبلاد الاجنبية بغية السفر بدأت تظهر بعدما كانت شبه معدومة، إذ إنّ ذهنية البيئة الشيعية لم تحبّذ السفر ومغادرة البلاد سابقاً.

«المسيحيون يُرفضون»

يقول صاحب مكتب الخدمات اللبناني (م.ح) إنّ السفارة الالمانية تحترم كل الاديان وهي متعاونة في قبول تأشيراتهم ولا تكترث للمذاهب والاديان. الّا انه لاحظ أخيراً أنّ طلبات كثيرة للشبّان المسيحيين اللبنانيين قوبِلت بالرفض، كاشفاً أنّ عدداً كبيراً من التأشيرات للطلاب المسيحيين السوريين قد رُفِض أيضاً، معلّقاً: «ربما يريدون إبقاءهم في بلاد الشام». وهذا الأمر أكّده صاحب مكتب الخدمات السوري، ملاحظاً أنّ نسبة الرفض كانت لافتة هذه السنة بالنسبة الى طلبات المسيحيين السوريين.

حتى إشعار آخر

ختاما من الجدير الإشارة إلى معلومات راجت مؤخراً تفيد انّ مرجعية دينية لبنانية كبيرة أوعزَت الى السفارات الاجنبية بعدم قبول طلبات تأشيرات المسيحيين الطامحين للهجرة او للسفر على انواعه، خصوصاً في هذه الفترة، تتناقل الاوساط الدينية والسياسية في لبنان، بالاضافة الى بعض التحليلات السياسية، أنّ المخطط الجديد للشرق الاوسط الجديد يفرض على الأرجح بقاءهم في الشرق، وقد يكون هذا السبب وراء التشدد في منح المسيحيين تأشيرات للسفر الى البلدان الاوروبية… حتى إشعار آخر.