IMLebanon

الحلقة الأخيرة من باخرة الأكوامارينا: أنقذت المسيحيين من الغرق وأمّنت صمودهم حتى آذار 1976: ماذا بعد؟

 

 

لم يقتنع الرئيس رشيد كرامي بتقرير الأميرال فارس لحود وإفادة الجنود أمام المحكمة العسكرية، واتهم قائد وضباط قاعدة جونيه البحرية بالانحياز، فقرر أن يوفد العقيد ديب كمال ومعه بعض الضباط لتفتيش الباخرة.

 

 

 

يقول الأميرال فارس لحود، إن حظ العقيد ديب كمال ورفاقه كان يومها سيئاً جداً، فمن لحظة وصولهم إلى جونيه لاقوا جواً معادياً، فعلى مدخل القاعدة مجموعات مسلّحة تنظر إليهم بغضب وقلق، وداخل القاعدة الجو غير طبيعي، فالضباط والجنود المسيحيون متوترون ينتظرون بقلق ما ستسفر عنه عملية التفتيش، حتى بعد صعودهم إلى الخافرة التي ستنقلهم إلى الباخرة لم يشعر العقيد ديب كمال ومن معه بالارتياح، فقد قاد الخافرة رتيب مسيحي وكانت قيادته لها سيئة جداً وعن قصد، فوصل الجميع إلى مقصدهم وهم يشعرون بالدوار.

 

بعد توقف الخافرة إلى جانب باخرة الأسلحة بدأ العقيد ديب كمال صعود السلم لتفتيشها، وكان يشعر بدوار شديد وكاد أن يتقيأ.

 

 

 

هنا بدأ الشباب بضرب الماعز التي راحت تصيح بصوت عالٍ ووصل صوتها إلى من يقف في الخافرة البحرية، فلم يكمل صعوده وعاد إلى الخافرة وهو يقول: باخرة «مواشٍ باخرة مواشٍ».

 

 

 

يشير ضابط سابق إلى أن العقيد ديب كمال لم يكن يستطيع أن يقول غير هذا الكلام فالجو ضاغط جداً: هو عند شاطئ كسروان عاصمة المسيحيين في لبنان والشرق، وقبالته سيدة حريصا ورهبتها، ومعظم رفاقه في الرحلة لا ينتظرون سوى أن يقول هذا الكلام، وعلى مرمى نظره عند الساحل ينتشر مئات الشبان المسلحين الذين لا يريدون أن يسمعوا سوى أن على الباخرة مواشٍ. فمؤكد قناعته أن في الباخرة شحنة أسلحة، لكنه لا يستطيع إلا أن يقول شحنة مواشٍ.

 

 

 

عادت البعثة العسكرية إلى الشاطئ وغادرت لتبلغ الرئيس كرامي نتيجة التفتيش، واستمر العمل بتفريغ الباخرة، وأعيدت رؤوس الماعز إلى الشاطئ وتسلمها صاحبها وعاد بها إلى جرود كسروان.

 

 

 

لم يقتنع الرئيس كرامي أيضاً بالتقارير الجديدة التي وصلته، فعقد مساءً في السراي الحكومي مؤتمراً صحافياً شرح فيه ما أسماه قصة باخرة السلاح منذ علم بالأمر وحتى الساعة، ومما قاله إنه طلب من قائد الجيش تفتيش الباخرة فأفاده أنها تحمل مواشيَ وطحيناً، لكنه عاد وأرسل بعض الأشخاص الذين يثق بهم لتفتيش السفينة الذين أكدوا له أن الباخرة تحمل شحنة من الأسلحة، وأن هناك مظاهر مريبة ومسلحين بكثافة.

 

 

 

أضاف أنه طلب من قائد الجيش إرسال قوة عسكرية لمصادرة الباخرة، فتلكأ العماد سعيد عن تنفيذ الأوامر، ثم أرسل (قائد الجيش) قوة وعادت من دون أن تتمكن من إتمام مهمتها، وتذرع قائد الجيش أن إطلاق نار ومسلحين وحواجز واجهت قوة الجيش ومنعتها من إكمال مهمتها. وحتى اللحظة ما يزال العمل على تفريغ السلاح جارياً وقبالة الباخرة خافرة لسلاح البحرية لا تتدخل. وأنه طلب من النيابة العامة العسكرية إرسال قاضٍ التحقيق إلى هناك وأيضاً طلب من مدير عام الجمارك إرسال قوة لتسير الأمور كلها في مجراها القانوني، لكن كل هذه الطلبات لم تنفذ.

 

 

 

تابع أن كل أوامره لم تنفذ وكأن هناك قوة أكبر من الشرعية تسيّر الوضع، ما يفرض عليه كرئيس للحكومة وكوزير للدفاع أن يتخذ الموقف الذي يمليه عليه ضميره، فلن يقبل أن يستمر الوضع على ما هو عليه، وبخاصة رفض تنفيذ الأوامر التي تصدر باسم المصلحة العامة ولخير الشعب، لا سيما من قبل الجيش اللبناني.

 

 

 

ختم أن ما جرى يؤكد صوابية موقفه المتحفظ لناحية إنزال الجيش، لأنه يعتبر أن نزول الجيش إلى الشارع لضبط الوضع الأمني سيترتب عليه مخاطر لم يشأ أن يدخل التجربة بسببها.

 

 

 

بعد انتهاء المؤتمر الصحافي، وصل إلى السراي الحكومي ياسر عرفات يرافقه أبو أياد وأبو حسن سلامة مسؤول أمن منظمة التحرير الفلسطينية واجتمعوا بالرئيس كرامي ثم غادروا جميعاً إلى عرمون، حيث عقد اجتماع شارك فيه المفتي خالد وعدد من القيادات الإسلامية.

 

 

 

في عرمون أدلى المفتي خالد بتصريح أيّد فيه موقف الرئيس رشيد كرامي رافضاً عدم تنفيذ الأوامر من قبل قيادة الجيش ومصراً على مصادرة الباخرة وحمولتها، وأعلن أن المجتمعين رفضوا استقالة رئيس الحكومة الذي ما يزال مصراً عليها.

 

 

 

وكانت صحيفة «النهار» نشرت تحقيقاً عن باخرة الأكوامارينا، أشارت فيه إلى أن مراسلها شاهد حاجزين مسلحين: الأول أسفل كازينو لبنان على طريق جونيه القديمة قرب مقهى «الكاليبسو» المتهدم، والثاني على مفترق «طبرجا بيتش» لجهة الطريق الداخلية، ولاحظ أن مهمة العناصر المسلحة كانت مراقبة السيارات العابرة وتوقيف الغرباء والاستفسار عن وجهتهم.

 

 

 

ليلاً، أصدر حزب «الكتائب اللبنانية» أول بيان مفصّل رد فيه على كل ما قيل حول باخرة الأكوامارينا وجاء فيه:

 

 

 

«إن حزب «الكتائب اللبنانية» بعد الاطلاع على تصاريح رئيس الحكومة وبعض القيادات الروحية والسياسية حول موضوع السلاح الذي يصل إلى لبنان يعلن ما يأتي:

 

 

 

1 – إن وقف تدفق السلاح على لبنان من أي مصدر كان ولأي جهة كانت غير الدولة اللبنانية، هو مطلب مزمن ما برح حزب «الكتائب» يلح على المسؤولين لتحقيقه منذ سنوات.

 

 

 

2 – إن الدافع الأساسي لاضطرار الفئات اللبنانية إلى التسلح هو وجود السلاح بكثرة مقلقة لدى جهات ليس للدولة اللبنانية عليها أي سلطة فعلية وشعور هذه الفئات اللبنانية بأنها مكشوفة وبلا أي حماية من الدولة.

 

 

 

 

 

3 – ان حق كل لبناني اليوم أن يسأل الحكومة وغير الحكومة عن مصدر السلاح الثقيل والخفيف الموجود بكثرة في العاصمة والضواحي وسائر المناطق وعن قواعد الصواريخ ومرابض المدافع التي صبت آلاف القذائف على الأحياء السكنية طوال ستة أشهر.

 

 

 

 

 

4 – كما يُسأل عن موقف الحكومة وغير الحكومة عن كميات السلاح التي أنزلتها الزوارق فجر أمس في محلة الكرنتينا (يومها كانت المنظمات الفلسطينية ما تزال تسيطر على محلتي المسلخ والكرنتينا ومدخل العاصمة الشمالي) وهي جزء من عمليات الإنزال الليلية التي تتم على طول الشاطئ وفي بعض المطارات لتغذية الاعتداءات والهجوم من مراكز معينة وليس في سبيل غايات دفاعية ولا أمنية.

 

 

 

 

 

5 – إن «الكتائب» التي تقدّر ما يبذله الرئيس كرامي من جهود في سبيل توفير الأمن والعودة بالبلاد إلى حالتها الطبيعية وتتعاون معه بإخلاص من أجل هذه الغاية، تتمنى عليه أن يعمل على بسط وجود الدولة على كل المناطق اللبنانية، خصوصاً طرابلس وعكار وصيدا والجنوب وراشيا والبقاع وقسم كبير من العاصمة بيروت. وأن يفرض الرقابة المشددة على كل نقاط الحدود لأننا نعلم جميعاً أن وجود الدولة الفعلي تقلص حتى انحصر في جزء من العاصمة وجبل لبنان وبعض الأقضية ذات الغالبية المعينة.

 

 

 

 

 

6 – إن مكافحة التسلح ووضع حد له يتمان بخطة شاملة تطبق على الجميع من دون استثناء، فيشعر المواطن بالمساواة التي تعزز ثقته بالدولة وركونه إلى الحماية التي توفرها له. وبكلام أوضح أن رفض استمرار عملية التسلح يجب أن يشمل كل المرافئ اللبنانية على طول الشاطئ الممتد من الناقورة إلى النهر الكبير، وكل المطارات العامة والخاصة، وكل مناطق الحدود الرسمية وغيرها.

 

 

 

 

 

7 – إن «الكتائب» دعت وتدعو بالحاح شديد إلى أن لا يبقى الجيش عاجزاً عن القيام بما يفرضه عليه الواجب أياً كانت الأسباب وتجاه أي كان لأن الواجب لا يتجزأ.

 

 

 

8 – نحن على يقين أن كثيراً من المضاعفات والنكبات ما كانت لتحصل لولا الخطة التي اعتمدت لشل الجيش ومنعه معنوياً ومادياً من القيام بواجبه في الدفاع عن الوطن وحماية الشعب وإنقاذ الأرواح والمؤسسات والممتلكات.

 

 

 

 

 

9 – ونلفت إلى أن الاستمرار في التشكيك في الجيش والاستعداء عليه والتهجم على عناصره وحصر استعماله في حالات جانبية ولأغراض فئوية سيؤدي إلى مزيد من الإساءة إليه وإلى الوطن.

 

 

 

 

 

10 – كنا نصارح من يعنيهم الأمر بأن اللبناني يجتاز اليوم مرحلة من الشك والحذر لا يمكن معالجتها إلا بالثقة المتبادلة وتوطيد الأمن وتأمين سيادة الدولة وضمان الحريات والسلامة العامة والملكية الخاصة بكل تفاصيلها.

 

 

 

 

 

11 – كما أن التصريحات الاستفزازية والدعوات السافرة إلى التدخل ضد فئات لبنانية واستمرار تدفق المساعدات من أموال ومعدات على فئات أخرى، والتهديدات العلنية الموجهة يومياً من مصادر لبنانية وغير لبنانية ومن تجمعات مرتبطة بالخارج، كل ذلك يضاعف الشكوك ويبعث على القلق ويدعو إلى الحذر ويشكل تحريضاً مباشراً على أخذ الحيطة لمواجهة الخطر بكل الوسائل والتحسب لكل الاحتمالات.

 

 

 

 

 

12 – ان «الكتائب اللبنانية» تؤيد الحكومة ورئيسها في كل مبادرة أمنية يتخذانها ولا تفوت أي فرصة للتعاون مع جميع المخلصين من دون استثناء وإنقاذ الوطن من محنته والعودة بالبلاد إلى أجواء الصفاء والاخاء.

 

 

 

 

 

ميدانياً، استمر طوال الليل تفريغ السلاح دون التوقف لحظة واحدة، فيما انتظر مئات المقاتلين عند الشاطئ  بقلق أي عملية مداهمة قد تتعرض لها الباخرة.

 

صباح 8 تشرين الثاني استمر الرئيس كرامي في تصعيده، فغادر بيروت إلى منزله في صوفر معلناً اعتكافه، ما أدى إلى الغاء جلسة مجلس الوزراء الخاصة التي كانت مخصصة لدرس الأزمات الناشئة عن الحوادث الأخيرة.

 

بعد وصوله إلى صوفر أدلى رئيس الحكومة بتصريح أعلن فيه أن موعد الجلسة سيبقى معلقاً إلى وقت آخر بسبب بعض العقبات السياسية التي يقتضي تذليلها قبل الدخول في أي بحث آخر، ومن أبرز هذه العقبات قضية باخرة السلاح وذيولها.

 

 

 

 

 

ظهراً، وصل إلى صوفر الرئيس صائب سلام والعميد ريمون إده وعقدوا اجتماعاً خصص لبحث قضية باخرة الأسلحة، وبعد الاجتماع أدلى العميد ريمون إده بتصريح نصح فيه الرئيس كرامي بالاستقالة، فيما أعلن الرئيس سلام أن التحالف الثلاثي الذي يضمه مع الرئيس كرامي والعميد إده ترك خيار الاستقالة أو الاعتكاف للرئيس كرامي في ضوء ما يستجد من تطورات سلبية كانت أم إيجابية.

 

 

 

 

 

حاول بعض الوزراء والنواب من بينهم الوزير غسان تويني والنائبان خاتشيك بابكيان ورينيه معوض الدخول على خط الوساطة، فالتقوا الرئيس شمعون والشيخ بيار الجميل طارحين أن الهدف الذي تسعى إليه القوى اليسارية هو إحراج رئيس الحكومة لإخراجه وبالتالي إظهاره أنه مثله مثل الآخرين، وأن أوامره لا تنفذ وعندها يترتب عليه الاستقالة، فالهدف إنقاذ الرئيس كرامي من هذه الورطة وإمكان إيجاد تسوية ترضي الطرفين. فيما أكدوا للرئيس كرامي أنه ليس من العدل منع السلاح عن المسيحيين الخائفين على وجودهم فيما المنظمات الفلسطينية التي شرّع لها اتفاق القاهرة التسلح توزعه على الحلفاء، وقدّموا لرئيس الحكومة لائحة طويلة بالتعديات التي يقوم بها الفلسطينيون على المسيحيين العزل.

 

 

 

عصرًا عقدت قمة عرمون اجتماعاً جديداً لبحث ما أسماه المجتمعون «تداعيات باخرة السلاح» وخلال الاجتماع أجرى المفتي خالد اتصالا ثانياً بالبطريرك خريش أطلعه خلاله على النتائج السلبية التي قد تسفر عنها نتائج استمرار إفراغ شحنة الأسلحة طالباً من البطريركية المارونية اتخاذ موقف.

 

 

 

بعد الاتصال دعا البطريرك خريش البطاركة والمطارنة الكاثوليك إلى اجتماع عاجل في بكركي شارك فيه من استطاع الوصول، جرت خلاله مناقشة صريحة للوضع الراهن، وفي نهاية الاجتماع صدر بيان دعا إلى إلقاء السلاح نهائياً واستئناف الحوار البنّاء بصدق وإخلاص، وطالب الدولة بممارسة سلطتها على كل الفرقاء وفي كل أنحاء لبنان لتطويق ذيول الكارثة.

 

 

 

ثم وصل الشيخ بيار الجميل وعقد اجتماعاً مطولاً مع البطريرك خريش خرج بعده وأدلى بتصريح أعلن فيه أن البحث تناول الوضع الراهن وأكّد أنه يعمل كل جهده للمحافظة على الهدوء. وفيما خص باخرة الأكوامارينا استغرب رئيس «الكتائب» مجدداً الضجة التي قامت وتساءل: لماذا لم تقم هذه الضجة عندما أفرغت بواخر الأسلحة حمولتها بوضح النهار وأمام أعين الجميع في صيدا والزهراني والكرنتينا؟، ووصف الرئيس كرامي بأنه رجل أخلاق وسياسة ويعرف أن العدل أساس الملك ودعاه إلى تطبيق هذا العدل على الجميع.

 

 

 

أما الرئيس شمعون فكان أكثر صراحة، فأدلى مساءً بتصريح قال فيه إنها ليست باخرة السلاح الأولى التي تصل إلى لبنان، فقد وصلت شحنات من الأسلحة إلى صيدا وطرابلس، وتساءل كيف يرى رئيس الحكومة باخرة الأكوامارينا ولا يرى باقي السفن والبواخر؟

 

 

 

تصريحا الرئيس شمعون والشيخ بيار الجميل أزّما الوضع أكثر فأكثر، فالرئيس كرامي الذي كان يجتمع مع بعض الوزراء في محاولة لإيجاد حل للأزمة، ولم يكن صدر تصريح الرئيس شمعون، أعلن بعد سماعه التصريح تصعيد اعتكافه، وبدأ يتحاشى الاتصالات الرسمية وإعطاء التعليمات، وكذلك المواعيد، وحتى تلك ذات الطابع الملح.

 

 

 

كل هذا التصعيد السياسي لم يوقف العمل على تفريغ السلاح لحظة واحدة، بل تم تكثيف عمليات التفريغ، خاصة وأنه لم يعد في الباخرة سوى كمية قليلة من الصناديق.

 

 

 

مع أول ساعات فجر 9 تشرين الثاني تم الانتهاء من تفريغ باخرة السلاح، التي أقلعت باتجاه المياه الدولية، فيما دخلت الباخرة الصغيرة إلى مرفأ الأكوامارينا لإفراغ حمولتها.

 

 

 

أما الرئيس كرامي فقطع كل ما قيل حول اعتكافه في صوفر وأعلن أنه أراد فرصة للتأمل في وضع الدولة وأجهزتها، خصوصاً بعدما كشفت حادثة باخرة السلاح أن هناك خللاً في الدولة يمنعها من ممارسة دورها ويشل بالتالي حركة أجهزتها، وأكد أنه في صدد إعادة النظر في أوضاع الدولة وقدراتها لمعالجة كل هذه القضايا ورسم الخطة اللازمة للنهوض بالبلاد.

 

 

 

وكان للزعيم كمال جنبلاط موقف تصعيدي، فبعد اجتماع الحزب «التقدمي الاشتراكي» أدلى بتصريح جاء فيه: «إن باخرة الأسلحة في منطقة الأكوامارينا في جونيه، قد أفرغت حمولتها وبينها 20 مدفعاً عيار 120 ملم، و17 مدفعاً عيار 82 ملم، و37 ألف قنبلة هاون. وأنهم استوردوا قنابل من جديد ليقصفوا بها أحياء الوطنيين وبيوت المسلمين». وأعلن «أن النية سيئة جداً لدى الطرف الآخر، وأصحاب صفقة الأسلحة هم طوني فرنجية وما يرمز إليه، وحزب الوطنيين الأحرار، وزمرة الرهبانيات أي تنظيم شربل قسيس وجماعته». وكان اللافت في تصريحه تحييد حزب «الكتائب» وعدم اتهامه بالمشاركة في صفقة الأسلحة.

 

 

 

رغم التصعيد السياسي الذي رافق إفراغ باخرة الأكوامارينا، عرفت البلاد انفراجاً ملحوظاً، فضلاً عن أن لجنة التنسيق العليا التي حاول البعض على أثر حادث الباخرة إلقاء الشك في إمكان استمرارها في ظل الاعتكاف، استمرت اجتماعاتها مفتوحة في مقر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وعقدت عدة اجتماعات برئاسة مدير عام قوى الأمن الداخلي عالجت خلالها عدة أحداث أمنية طارئة، خاصة بعض عمليات الخطف.

 

 

 

 

 

مساء، وبعد أن تبلغ الجميع أن باخرة السلاح غادرت الشواطئ اللبنانية، بدأ البحث الجدي بتهدئة الوضع، وأدلى الرئيس كرامي بتصريح شدد فيه على تطبيق القانون على الجميع ومكافحة السلاح أينما وجد، وأضاف أن التسلح لا يمكن أن يكون العلاج لوضع البلد.

 

تصريح رئيس الحكومة فسّره المراقبون بأنه الخطوة الأولى لتبريد الأجواء، وبخاصة وأن البلاد تنتظر زيارة المبعوث البابوي الكاردينال برتولي، وفسّر البعض محاولة اعتكاف رئيس الحكومة وعدم انعقاد مجلس الوزراء بأن الأجواء لم تكن مهيأة بعد وكان يخشى أن تعكر ذيول حادثة الباخرة الصفاء السياسي المطلوب للبحث في خطة مواجهة ما بعد الحوادث.

 

 

 

 

 

ليلاً، نشطت الاتصالات بين قصر بعبدا ومقر رئيس الحكومة في صوفر وشارك فيها الوزراء: الرئيس عادل عسيران والأمير مجيد أرسلان وغسان تويني وبعض النواب لا سيما النواب جوزف سكاف وخاتشيك بابكيان ورينيه معوض وبطرس حرب، تركزت على التمهيد لعقد جلسة قريبة لمجلس الوزراء.

 

 

 

ظهر 10 تشرين الثاني غادر جميع المقاتلين ساحل كسروان، وتوجه معظمهم إلى قراهم والأديرة والمستودعات التي وضعت فيها الأسلحة والذخائر وبدأوا العمل على فرز وتوضيب الصناديق.

 

 

 

 

 

سياسياً، لوحظ عدم التحدث في قضية الباخرة مباشرة، فبعد اجتماع عقدته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقادة الأحزاب الوطنية صدر بيان لم يتطرق إلى باخرة الأكوامارينا، بل هاجم الشعبة الثانية في الجيش اللبناني ورئيسها العقيد جول البستاني، واتهموها بـ «ممارسة لعبة التخريب والدمار، وأنها هي الفريق الثالث وهي وراء كل الحوادث التي شهدها لبنان منذ محاولة اغتيال معروف سعد في شباط الماضي»، واتهمها البيان بـ «تسليح المقاتلين الانعزاليين وتحريض الرهبان وتخويفهم ودفعهم إلى فتح الأديرة وتحويلها إلى ترسانات للسلاح ومراكز للتدريب».

 

 

 

أما الرئيس كرامي فاستقبل قبل الظهر في صوفر الإمام موسى الصدر الذي أعلن أن هذا الأسبوع سيكون الأسبوع الحاسم في الأزمة اللبنانية، فيما غادر رئيس الحكومة إلى السراي الحكومي للتحضير لزيارة المبعوث البابوي منهياً اعتكافه.

 

 

 

 

 

انتهت قصة باخرة السلاح التي عرفت بباخرة الأكوامارينا، وانشغل المسؤولون والمواطنون بتطور الأوضاع الأمنية التي راحت تتدهور يوماً بعد يوم، وعنفت المعارك على جميع الجبهات واستعملت فيها مختلف أنواع الأسلحة، ولعب السلاح الذي أحضرته باخرة الأكوامارينا دوراً هاماً في الدفاع عن القرى والبلدات المسيحية.

 

 

 

 

 

أمنت باخرة الأكوامارينا صمود الجبهات حتى شهر آذار 1976 حين بدأت الذخائر بالنفاد، ولم يتمكن أي من التجار من عقد صفقة جديدة، فقد سدت جميع الطرق في وجههم.

 

أصبح أمام «الجبهة اللبنانية» حل أصعب من الآخر: «الاستسلام أو التواصل مع الشيطان».

 

 

 

 

 

ليل 27 آذار 1976 ركب الأستاذ جوزف أبو خليل الزورق ووجهته ميناء حيفا في أول اتصال ما بين «الجبهة اللبنانية» وإسرائيل بهذا المستوى، وكان الهدف: السلاح والذخائر.

 

لاقى الأستاذ أبو خليل استقبالاً حاراً فقالوا له: «كنا ناطرينكم».

 

رد عليهم: «جينا والسكين على رقبتنا هلق ما فينا نوعدكم بشي بدنا نعيش لاحقاً نبحث كل الأمور».

 

قالوا له: «لن تسقط مناطقكم».

 

وفيما ما زال أبو خليل في إسرائيل كانت البواخر الإسرائيلية تقف قبالة شاطئ كسروان وبدأت إفراغ الأسلحة والذخائر.

 

 

 

 

 

من أخبار باخرة الأكوامارينا

 

1 – من كان متواجداً خلال تفريع شحنة الأسلحة؟

 

سؤال طرح على مسؤول عسكري سابق بقي طوال فترة تفريغ الشحنة في الأكوامارينا، فأجاب: «طبعاً الرئيس شمعون والشيخ بيار الجميل لم يحضرا إلى الأكوامارينا، حتى الشيخ بشير الجميل لم أشاهده، لكنه كان يتصل بمعدل مرة كل ساعة لمعرفة الوضع، ولتوجيه الشاحنات إلى أماكن محددة. كما اتصل الشيخ أمين الجميل عدة مرات بهدف توجيه بعض الشاحنات. داني شمعون زار الأكوامارينا أكثر من مرة، وكان ينسّق سير معظم الشاحنات، وكذلك الأباتي شربل قسيس كان يتردد يومياً تقريباً، ودائماً كان يتواجد بعض الرهبان الذين كانوا يحضرون ومعهم المأكل والحلويات والمرطبات التي يوزعونها على المقاتلين والعمال، كما حضر النائب طوني فرنجية عدة مرات، وأيضاً الأب سمعان الدويهي وهنري صفير وسليم كرم، وشاهدت عدة نواب مسيحيين وقادة تنظيمات مسيحية يأتون ويأخذون كميات من الأسلحة إلى مناطقهم المهددة من قبل الفلسطينيين، أما النائب جبران طوق وباقي أعضاء لجنة التسلح فنادراً ما تركوا الأكوامارينا، كما حضر بعض ضباط الجيش اللبناني ولكن بصورة سرية خاصة في الليل لمعرفة المراحل التي قطعتها عملية التفريغ».

 

 

 

 

 

2 – كيف افتضح أمر الباخرة؟

 

رد المسؤول العسكري السابق: «لم يكن هناك من مجال لإبقاء الأمر سرياً، فالباخرة كبيرة جداً ووقوفها لنحو عشرة أيام قبالة الشاطئ سيلفت الانتباه، ومن ثم حركة الزوارق التي تغادر موانئ ساحل كسروان إلى الباخرة بصورة شبه مستمرة، ومغادرة مرفأ الأكوامارينا أكثر من 20 – 30 شاحنة يومياً محملة بالأسلحة ترافقها سيارات تقل مسلحين، إضافة إلى مشاركة مئات العمال والمقاتلين في نقل الصناديق وحماية عملية التفريغ. كل هذا لا يمكن أن يبقي الأمر سرياً. ومن ثم كان معظم المشاركين ينقلون إلى أهلهم ومعارفهم أخبار الباخرة لزيادة المعنويات لدى الشعب المسيحي».

 

 

 

 

 

3 – لماذا انتظر الرئيس رشيد كرامي عدة أيام حتى فضح الباخرة؟

 

على هذا السؤال رد قيادي مسيحي قائلا: «كان الرئيس كرامي يعرف بأمر الباخرة من أول أو ثاني يوم رست فيه قبالة شاطئ الأكوامارينا ولم يكن يريد فضحها، ولكن ياسر عرفات وقادة الأحزاب اليسارية حشروه كثيراً ولم يعد يستطيع السكوت». ولتأكيد كلامه يخبر القيادي المسيحي أنه سنة 1985 زار الرئيس رشيد كرامي العاصمة الفرنسية، وأقام على شرفه السفير اللبناني الأمير فاروق أبي اللمع حفل استقبال دعا اليه القيادات والشخصيات اللبنانية المتواجدة يومها في باريس.

 

 

 

 

 

خلال الحفل، التقى الرئيس كرامي الراهب اللبناني الأب مرتينوس سابا وكان لعب دوراً مهماً خلال تفريغ الباخرة، وعندما عرّف الأمير أبي اللمع الرئيس كرامي بالأب مرتينوس سابا، شعر الراهب أن اسمه عنى شيئاً لرئيس الحكومة، فقال له: «اسمي ذكّرك بقضية باخرة الأكوامارينا»، فأبدى الرئيس كرامي موافقته.

 

 

 

 

 

هنا دار حديث بين الرئيس كرامي والأب مرتينوس سابا وبعض الحضور حول الحرب اللبنانية وقضية التسلح، وما قاله الأب مرتينوس سابا للرئيس كرامي: «دولة الرئيس، كنا مهددين وندافع عن وجودنا وأرضنا، ولم يكن لنا خيار آخر، فالاستسلام ممنوع ورمينا في البحر غير وارد ما دام يوجد شاب واحد قادر على حمل السلاح، فلم يكن لنا من مجال سوى أن نتسلح: لقد تسلحنا مرغمين».

 

 

 

 

 

رد عليه الرئيس كرامي: «لم يكن أحد يريد رميكم في البحر وأصلاً ما حدا عندو قدرة يرميكم في البحر والبلد ما بيسوى من دونكم».

 

خلال الحديث استشف الراهب اللبناني من الرئيس كرامي أنه كان يعرف بأمر الباخرة ولزم الصمت عدة أيام، لأنه كان يعلم أن جميع منافذ البلاد البرية والبحرية مشرّعة لمختلف شحنات الأسلحة، ويوم فجّر القضية ما عاد يستطيع السكوت، بخاصة وأنه رئيس للحكومة وسكوته أصبح يفسر وكأنه مشاركة في العملية.

 

 

 

 

 

 

 

من قصص توزيع السلاح

 

عندما وصلت باخرة الأكوامارينا بداية تشرين الثاني من العام 1975 وبدأ توزيع السلاح على الأحزاب والبلدات المسيحية، لا سيما عند أطراف الوطن من أجل دعم صمودهم، كان ما يزال للدولة حضورها وإن بنسبٍ متفاوتة ما بين المناطق، فكان هناك صعوبة نوعاً ما في إيصال شاحنات الأسلحة إلى القرى، لا سيما تأمين مرورها على الحواجز العسكرية وفي المدن المسيطر عليها من قبل المنظمات الفلسطينية.

 

 

 

 

 

من الأخبار التي ما زالت تروى:

 

 

 

1 – انطلقت من الأكوامارينا شاحنة محملة بالأسلحة ووجهتها القبيات، وكان عليها أن تعبر حاجز الجيش عند جسر المدفون، وفي مثل هذه الحالات كان مرافقو الشاحنة ينتظرون دوام حراسة رتباء وجنود مضموني الولاء فيسهلون عبورهم من دون تفتيش.

 

دائماً كان يسبق شاحنة الأسلحة سيارة مهمتها استكشاف الطريق، وصودف أن الجندي الذي كان سيؤمن يومها عبور الشاحنة عند جسر المدفون، ولسبب ما تأخرت نوبة حراسته، فتوقفت إلى جانب الطريق جنوب جسر المدفون على بعد قرابة 700 متر عن الحاجز في انتظار تبديل الحرس.

 

 

فيما الشاحنة متوقفة وسيارة الاستكشاف تتحرك، وصل الأب سمعان الدويهي في طريقه إلى زغرتا وكان في الأكوامارينا فعرف الشاحنة فتوقف يستفسر عن سبب التوقف فأخبروه أن الجندي الذي سيؤمن عبورهم لم يتسلم مركزه بعد، والوقت يداهم والمسافة إلى عكار طويلة.

 

رد الأب سمعان الدويهي: «3 دقائق وبتمشوا أنا ناطركم على الحاجز ويللي بيقدر يوقف الشاحنة ما يتأخر».

 

 

انطلق الأب سمعان الدويهي باتجاه الحاجز وصندوق سيارته ممتلئ بالأسلحة والذخائر، ولكن من يملك الجرأة على تفتيش سيارته؟

 

وصل إلى الحاجز وتوقف ونزل فتحلق من حوله الجنود والمدنيون المتواجدون في المحل المجاور، وما هي إلا دقائق حتى شاهد الشاحنة تقترب من الحاجز فصرخ بالجميع: «ليكوا الزيتون شوفوا الزيتون الكل يطلعوا بالزيتون».

 

 

 

التفت الجميع باتجاه بساتين الزيتون مستغربين، فيما محسن البابا الدويهي مرافق الأب سمعان يقف أمام عنصر الحرس ويصرخ للشاحنة: «يلله يسر حالك يسر حالك الله معك».

 

ومن قاد الشاحنة سائق عتيق مجرب راح ينهب الأرض نهباً يسابق الثواني ليعبر الحاجز.

 

 

 

بعد عبور الشاحنة شكر الأب سمعان الدويهي الموجودين شاداً على يد الضابط الذي يبدو أنه أحس بشيء ما حصل، لكنه لم يرغب بفتح أي موضوع مع الأب سمعان الدويهي.

 

وهكذا عبرت الشاحنة جسر المدفون بفضل الأب سمعان الدويهي وأكملت طريقها إلى عكار.

 

 

 

 

2 – كان المطلوب إيصال شاحنة الى البقاع وعليها أن تعبر حاجزاً للجيش كان الضابط المسؤول عنه من قرية معظم شبابها متواجدين عند شاطئ كسروان، لكن الجميع أكدوا: «ما بيسهل طريق الشاحنة، تكفّل الراهب اللبناني الأب حنا وهبة بإقناعه، ورغم كل التبريرات التي قدمها رفض الضابط التعاون مصراً على توقيف الشاحنة، فما كان من الراهب إلا أن قال له بتحدٍ: ليك يا إبني الشاحنة بدها بكرا تقطع بها الوقت وإنت بدك تقطعها، وعاد الراهب غاضباً»، وأتى من يقول له إن أشقاء الضابط ومعظم شباب بلدته عند الأكوامارينا.

 

 

في الوقت المحدد وصلت الشاحنة إلى الحاجز والضابط واقف ينتظرها ليوقفها. التفت فشاهد شقيقه وابن عمه يجلسان إلى جانب السائق: تم إحضارهما خصيصاً. قال الضابط لاحقاً: «مرّت عليّ ثوانٍ جنيت شو بعمل؟ إذا وقفت الشاحنة، بعد بقدر فوت على الضيعة؟ والله بيّي بيقتلني

 

بطريقة لا شعورية أومأ للشاحنة أن تتابع طريقها فأكملت سيرها».

 

لم تمض أيام قليلة حتى تعرض هذا الضابط للإهانة من قبل الفلسطينيين وأصبح من أشرس المسؤولين العسكريين الذين قادوا الجبهات.

 

 

 

باحث

 

 

المصادر

 

الصحف المحلية: النهار، الأنوار، العمل، السفير، البيرق، لسان الحال

 

نقولا ناصيف المكتب الثاني حاكم في الظل

 

فريد الخازن تفكك أوصال الدولة اللبنانية

 

أنطوان جبرايل طوق، بشري خلال الحرب اللبنانية

 

القوى النظامية الكتائبية، مؤصل الجذور ومفصّل الوقائع

 

أنطوان خويري، حوادث لبنان، الجزء الأول

 

لقاءات واتصالات شخصية مع: رهبان وقادة سياسيين وضباط ورتباء متقاعدين ومسؤوليين عسكريين ومقاتلين سابقين في أحزاب وتنظيمات الجبهة اللبنانية