IMLebanon

قبل أن يعود دين براون إلى لبنان

في الصراع السنّي- الشيعي في الشرق الأوسط، دمٌ كثير ودمار كبير، وحروب طويلة، ولكن لا الشيعة ولا السنّة يواجهون خطر الإنقراض. فماذا عن المسيحيين والأكراد والدروز وسائر الأقليات؟

لطالما حذّر المفكِّرون المسيحيون في القرن الفائت من الخطر الآتي: إن إسرائيل عدو للعرب بالتأكيد، وهي تعمل لتدميرهم وإعادتهم بَدْواً، على الجِمال، في الصحراء. لكنها في شكل لا يقبل الجدل عدّوة لمسيحيي المشرق في الدرجة الأولى، ولمسيحيي لبنان تحديداً.

فهؤلاء يشكِّلون النقيض الحضاري لها من جهة، والمنافس الحضاري من جهة أخرى. ولذلك، إن تدمير النموذج اللبناني لتفاعل الأديان والثقافات، والقضاء على الجسر المسيحي بين العرب والغرب، هما مصلحة إسرائيلية أولى.

لم يكن الكثير من اللبنانيين، والمسيحيين تحديداً، يصدِّقون هذه التحذيرات. لكن تجربة المسيحيين اللبنانيين، منذ بداية الحرب الأهلية إلى إجتياح 1982 وما تلاها من مغامرات سياسية وحروب في الجبل والعاصمة، إلى الإنسحاب في العام 2000 ومستتبعاته تجزم ذلك. كما أن مجريات «الربيع العربي»، تثبت أن أحداً لا يهتم بمصير المسيحيين في المشرق.

في ميزان الصراع، المنطقة ذاهبة إلى تقاسم بين الإمبراطوريات الإيرانية والعثمانية والإسرائيلية. وفيما السُنّة العرب والشيعة العرب غارقون في دمائهم، ولسنوات طوال على ما يبدو، سيكون متوافراً للقوى الإقليمية أن تضع يدها على العالم العربي من جديد.

وأول المستفيدين من اللعبة هو إسرائيل. وأما إيران وتركيا فستحصلان على جوائز الترضية للقبول بتكريس التوسُّع الإسرائيلي عندما يبدأ العالم العربي بالتفكُّك، بدءاً بالعراق وسوريا.

ومن هنا، يُطرَح مصير الأقليات الدينية والقومية على بساط البحث. وقد يخيَّل للبعض أن ثمة دولاً جاهزة ستكون في إنتظار هذه الأقليات، وستحميها لئلا تكون كبش الفداء في الصراع المذهبي الدائر.

وفي الواقع، العروض التي تأتي إلى مسيحيي المشرق من الدول الكبرى لا تهتمُّ بترسيخهم في أرضهم التاريخية، التي كانوا فيها قبل مجيء الإسلام وحتى قبل مجيء المسيحية. بل إن هذه العروض تتعاطى مع مسيحيي المشرق وكأنهم جالية يمكن نقلها بالبواخر والطائرات إلى مكان آمن في بقعة أخرى من العالم: جليد كندا مثلاً.

وهذا النموذج عرفه مسيحيو لبنان مع بداية الحرب الأهلية، مع دين براون، موفد هنري كسينجر، وزير الخارجية الأميركية في العام 1976. فهو حمل إلى الرئيس سليمان فرنجية عرضاً يقضي بنقل المسيحيين بالبواخر إلى بقاعٍ آمنة من العالم.

يومذاك، قال فرنجيه لضيفه الثقيل: «أولادنا جمیعاً يقاتلون من أجل بقاء لبنان وديمومته. أخبِرْ معلمَك اننا نرفض مغادرة لبنان». ثم أخرجه الى الشرفة، ودعاه إلى مشاهدة الجبال والوديان والأراضي المزروعة، وقال له: «أجدادنا حوَّلوا الصخور الى جنائن يزرعونها ويأكلون منها، وتعرَّضوا لهجمات كثيرة ولم يتركوا أرضهم، ونحن لن نترك أرضنا».

واليوم، يعتقد كثيرون أن من المنطقي أن تكون المخططات الكبرى قد حجزت للأكراد والمسيحيين والدروز وسائر الأقليات مكاناً آمناً على الخريطة. لكن ما يتعرض له أقباط مصر لا يوحي بإهتمام العالم. وأما الأشوريون والسريان وسائر مسيحيي سوريا والعراق فتعرَّضوا لعمليات إقتلاع شرسة، من دون أن تتطلَّع أي من القوى الدولية إلى مصيرهم.

وتعرَّض تراثهم الوطني العريق لعملية هدمٍ قلَّ نظيرها في التاريخ. وثمة من يعتقد أنه الثأر اليهودي من ورثة تراث نبوخذ نصّر، لمصلحة قورش الفارسي، على خلفية سبي بابل وهدم الهيكل في القرن السابع قبل الميلاد.

ولا ينسى أحد ما تعرّض له الشعب الأرمني الذي يُحْيي اليوم ذكرى المجازر قبل 100 عام، وقد ذهب ضحية المصالح الدولية. ويجدر التوقف هنا عند الإبادة الصامتة والخبيثة التي تعرَّض لها سكان جبل لبنان المسيحيون في الفترة إياها، والتي ذهب ضحيتها ثلث هؤلاء السكان على الأيدي العثمانية إياها… ولكن جوعاً. وهذه مجزرة لا تقلّ هولاً عن مجزرة الأرمن.

وأثبت باحثون جديون أن الجوع كان مفتعلاً كورقة ضغط لإخضاع الجبل. ويجدر بلبنان أن يُحيي ذكرى مئات الآلاف من شهدائه في 6 أيار، وليس فقط أبطال الإستقلال الذين أعدمهم جمال باشا السفّاح في ساحة البرج عام 1916.

اليوم، تسأل الأقليات المشرقية عن مصيرها. فالأقلية العلوية تتحالف مع المحور الإيراني وتُمنح إمكانات الإستمرار بل السيطرة. وأما الأكراد فيُمنَحون الضمانات في إطار حدودهم الوليدة على أطراف العراق وسوريا. فهؤلاء مجموعة قومية لا تزال تمتلك الطاقات الإقتصادية والإطار الجغرافي والديموغرافي والعصبية.

وأما الدروز والمسيحيون فيخشون على مصيرهم. ويقوم الدروز بمهادنة «النصرة» ومسايرة الأقوياء إقليمياً لكي يحافظوا على أنفسهم، فيما المسيحيون يتلقّون الضربات في كل مكان… حتى في لبنان نسبياً. وهذه هي معضلة الوجود المسيحي المشرقي في مرحلة صعبة من تاريح المشرق: «نكون أو لا نكون»!

ففي الكمبيوتر الدولي والإقليمي لا مجال للحضارات والثقافات، بل للحسابات والمصالح. والمسيحيون قادرون على العطاء في المجال الحضاري، وأما في مجال المصالح فمفلسون… إلا إذا جعلوا أنفسهم جزءاً من المحاور المتقاتلة أو من المصالح الكبرى. وعندئذٍ سيكون مصيرهم في خطر أكبر.

إنها معضلة المسيحيين المشرقيين. هي شديدة الصعوبة في العراق وسوريا ومصر، لكنها أكثر سهولة في لبنان. فهل يعي مسيحيو لبنان، وزعماؤهم خصوصاً، المسؤولية المترتبة على هذه الحقيقة، قبل أن يعود إلى لبنان أي دين براون آخر… ولا يجد رئيساً يواجهه ؟