IMLebanon

الرهان على «ذاكرة مثقوبة» تُهمِل ولا تنسى مخاطر الشغور!؟

شكّل الإنتقالُ المفاجئ من مرحلة الشغور الرئاسي الى بداية عهد جديد في أقلّ من أسبوعين دعوةً الى نسيان المنطق الذي ساد تلك الفترة. فبعد 45 جلسة فشل خلالها مجلس النواب في انتخاب الرئيس، لم يعتد البعض أنّ قصر بعبدا بات مسكوناً واكتمل عقدُ المؤسسات. وهو ما يستدعي وجود «ذاكرة مثقوبة» تهمل دون أن تنسى مخاطر ما عاشته البلاد في 29 شهراً. كيف ولماذا؟

خلال فترة 11 يوماً تُحتسب من الخميس 20 تشرين الأول الماضي تاريخ إعلان الرئيس سعد الحريري تبنّي ترشيح العماد ميشال عون ليكون رئيساً للجمهورية تسلّم سلطاته الدستورية في الحادي والثلاثين منه انتقلت البلاد من حال الى نقيضها.

فالرئيس الجديد لم يجد في القصر الجمهوري سلفه الذي كان عليه انتظاره ليسلّمه الأمانة بعد أن يقلّده وسام الاستحقاق اللبناني من رتبة «الوشاح الأكبر» من الدرجة الاستثنائية والقلادة الكبرى لوسام الأرز الوطني، وتلتقط لهما الصورة التذكارية والتي لم يحظَ بها ثلاثة رؤساء منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي لتكون فريدة في أرشيف الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود.

كان اللبنانيون قد نسوا في أطول مرحلة من الشغور الرئاسي التي شهدتها البلاد المراسمَ البروتوكولية التي تواكب وصولَ الرئيس الجديد للجمهورية الى القصر ليتسلّم مهماته بعد أن يؤدّي القسم الدستوري أمام مجلس النواب للحفاظ عليه وحمايته.

ولم يتذكّر سوى قلائل «لحنَ التعظيم» الذي يواكب وصوله الى الباحة الخارجية للقصر مستعرِضاً فوق السجاد الأحمر ثلة من الحرس الجمهوري ويلقي التحية الواجبة للعلم قبل دخوله الباب الرئيس للقصر بين صفَّي كتيبة التشريفات على وقع إطلاق المدفعية إحدى وعشرين طلقة وإطلاق البواخر الراسية في مرفأ بيروت صفاراتها للمناسبة وليدخل في آخر المراحل مكتبه وسط صفَّين من الرماحة.

ومع عبور البلاد منذ أسبوع مدار استشارات التكليف ودخولها مخاضَ التأليف لتوليد التشكيلة الحكومية الجديدة، بات على اللبنانيين أن يستخدموا لغة جديدة غابت عن ألسنتهم. فقد كاد الشغور الرئاسي ينسيهم إياها وأصولها، يحدوهم الأمل باعتماد منطق ولغة جديدين يعبّران بصدق عن آمالهم بإمكان إعادة بناء المؤسسات الدستورية والعودة الى ما يقول به الدستور.

ومردّ ذلك الى الخوف الجدّي من أن يسود منطق «الكيد والنكد السياسي» الذي كان قائماً نتيجة اللجوء الى مجموعة من السوابق الخطيرة التي يمكن أن تتحوّل أعرافاً مرفوضة وُضع فيها القانون في الجارور والدستور على الرف.

ولا يتجاهل كثر أنها هدّدت بإمكان انحلال الدولة وانهيار مؤسساتها بين ليلة وضحاها لولا وجود القوى العسكرية والأمنية في أعلى جهوزيّتها، وهي التي كانت تستظلّ في ما مضى الغطاء السياسي لرئيس الدولة ومؤسساتها فتحوّلت غطاءً لما تبقى منها وهي تبحث عن مصيرها في الحدّ الأدنى من التضامن الحكومي وتشريع الضرورة في مجلس نيابي اعتُبر الأقلّ إنتاجاً في تاريخ المجالس النيابية.

والى أن يأتي العهد الجديد بما عقدت عليه من آمال تستذكر المراجع السياسية فصولاً من مرحلة الشغور التي على الجميع استخدام جانب من وعيهم لتخزينها والسعي بكلّ القدرات الى نسيان بعضها بعد جوجلة العبر منها سعياً الى عدم السماح بتكرارها.

فقد أقفل انتخاب رئيس الجمهورية سلّة من المشكلات التي لم يكن من السهل مقاربتها في ظلّ الظروف الداخلية التي عاشتها البلاد تأسيساً على ما تسبّبت به الأحداث الكبرى في المنطقة والوضع في سوريا واليمن وسعي البعض الى استثمارها في الداخل كلّ على طريقته ووفق حجمه وقدراته بالإضافة الى محاولة استغلال الملفات الإجتماعية والبيئية الخطيرة لجني المال الحرام.

وفي تصنيفٍ دقيق لأحداث مرحلة الشغور تتوافق مراجع سياسية ودبلوماسية على اعتبار أنّ بعضاً من المسؤولين الذين تحكّموا بمفاصل الدولة ومؤسساتها أتقنوا اللعب على حدّ السكين من دون الخشية من شفير الهاوية الذي اقتربت منه البلاد في لحظة ما. ولم يبذل آخرون أيّ جهد للخروج من مأزق الإستحقاق الرئاسي حتى إنّ بعضهم جهد للتعتيم على قصر بعبدا وكلّ ما يجرى فيه.

في وقت كان آخرون ممَّن نعموا بالمواقع والمقاعد الوزارية يرغبون في أن تطول فترة الشغور الى الحدّ الأقصى تغليباً لمصالح آنية على رغم ما بلغته الحدة في المواقف نتيجة بلوغ البحث مرحلة حدود الصلاحيات في المواقع المصنّفة طائفياً في غياب الرئيس.

كذلك سعى البعض الى التلاعب بالمؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والمالية عدا عن محاولات استغلال النازحين في مشاريع أمنية داخلية أحيت الحديث عن نقاط التقاءٍ مع الفتنة المذهبية في مناطق حساسة كاد إشعالها أن يعيد البلاد الى زمن غابر.

وفي هذه الأجواء التي لم تُرصَد كلّ وقائعها علناً نتيجة حصولها ضمن جدران أربعة لا يستطيع العارفون أن يتنكّروا لمضمون مناقشات بلغت حدود تهديد فريق من اللبنانيين بمنطق «ما عاد بدنا نعيش سوا، وما بقا ينعاش معن» تزامناً مع وجود معادلة نطق بها آخرون تقول «لكم وطنكم ولنا وطننا».

وبلغ فريق آخر حدود التهديد بفرط النظام وإعادة تركيبه والتأسيس لآخر، عدا عن اللجوء الى «العراضات الميليشيوية» وإنشاء «سراي جديدة» أحيت المخاطر التي اعتقد اللبنانيون أنهم تجاوزوها منذ ثلاثة عقود ونصف. وكلّ ذلك كان يجرى وسط بوادر أزمات اقتصادية ومالية زادت عدد العاطلين عن العمل وبلغت حدود التهديد بفقدان رواتب الموظفين مدنيّين وعسكريّين ومتقاعدين.

على هذه الخلفيات يجد كثر أنّ على اللبنانيين عدم التنكّر لما شهدته تلك الفترة التي عبرتها البلاد، ونصحوا باستخدام «ذاكرة مثقوبة» تخزّن في جانب منها الأحداث من دون نسيان مخاطرها.

وليفتحوا عهداً جديداً مملوءاً ثقة بالمستقبل – شرط أن لا يخذله أصحاب الوعود البرّاقة – بنمط حكم صالح يلبّي مطالب وأماني اللبنانيين ويترجمها فلا «يذهب الفجعان وياتي الجوعان». فجميع المسؤولين وُضعوا على مقصلة التجربة على قاعدة «عند الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان» وليُبنى لاحقاً على الشيء مقتضاه.