IMLebanon

مسيحيّة الرئاسة الأولى

مسيحيّة الرئاسة الأولى

إيلي طوني الياس

لإنتخابات رئيس الجمهورية في لبنان ميزة خاصّة الى جانب أهميّتها في تحديد هوية رئيس البلاد الذي بدوره يُحدّد سياساتها العامة ومواقف لبنان من القضايا الإقليمية والدولية، فهي أيضاً الموقع المسيحي الأوّل في السلطة التنفيذية.

التساؤل الذي يُبادر الى أذهان المراقبين للوضع السياسي اللبناني: لماذا يُولي اللبنانيون أهمية بالغة في الحفاظ على مسيحية الموقع؟ ولماذا عند هذا الاستحقاق يفتح موضوع التمثيل المسيحي الصحيح والتوازن الطائفي وتوضع الصيغة اللبنانية على طاولة الاجتهادات والتفاسير؟

إنّ الجواب على هذه المسألة ينطوي في طياته على أربع مسائل أساسية تجعل من مسيحية رئاسة الجمهورية في لبنان ضرورة حتميّة للبنان ولمسيحيّيه.

المسار الأوّل هو تاريخي مرتبط بالمسيحيين في لبنان عموماً والموارنة خصوصاً. إنّ رئاسة الجمهورية اللبنانية هي مطلب مسيحي تاريخي يعود لعهد المتصرّفية، حين تمّ وضع نظام أساسي لجبل لبنان (بروتوكول 1861) بإشراف القوى الدولية العظمى، إلى جانب السلطنة العثمانية، وتمّ الاتفاق على تعيين متصرّف مسيحي عثماني على رأس هذا النظام.

وهذا المطلب انطلق من مبدأ رفض الذمّية والمحافظة على الحضور السياسي المسيحي القوي في منطقة محيطة لا تحتمل وليَّ أمرٍ من غير المسلمين. هذا ما يُفسّر حصر إسلامية رئيس الدولة في دساتير الأنظمة القائمة والمحيطة بلبنان.

المسار الثاني هو ميثاقي. إنّ مسيحيّة الموقع هي في جوهر الميثاق الوطني كالمناصفة التي تُعبّر عن إرادة العيش المشترك والإجماعات المبدئية المكوِّنة لجوهر لبنان ومستقبله. كما رأينا سابقاً، لبنان تكوّن في ظلّ نظام عثماني لإدارة التعددية الطائفية داخل السلطنة عُرف بنظام الملل.

بعد سقوط السلطنة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وتوقّف العمل بنظام الملل بطبيعة الحال، وضراوة المسيحيين اللبنانيين في مطالبتهم بتأسيس دولة حديثة ضمن حدود لبنان التاريخية وبمساعدة الفرنسيين عام 1920، أجبر المسلمون القاطنون على الأراضي اللبنانية على البحث عن صيغة مقبولة عند الطرف الآخر يؤمّن لهم مساحة واسعة في المشاركة في عملية إدارة البلاد.

تحقّق هذا المطلب عند تأسيس ما يُعرف بالميثاق الوطني: مناصفة في الإدارات العامة، سنّية رئاسة الوزراء وشيعيّة رئاسة مجلس النواب. وبالتالي فإنّ ضمانة حقوق المسلمين هي مسيحيّة رئاسة الجمهورية.

المسار الثالث هو إقليمي. مسيحيّة رئاسة الجمهورية هي تثبيت «للحضور المسيحي على مسرح نشأتها»، كما قال الفيلسوف اللبناني الكبير شارل مالك. في ظلّ وجود تيارات إسلامية متصاعدة تهدف الى أسلمة الدول المحيطة، كان مصدرها بلاد الفرس أو الخليج، وبوجود كيانٍ إسرائيلي يرفع شعار «الدولة اليهودية».

ومع ذلك إنّ مسيحيّة الرئاسة لا تعني بأيّ شكل من الأشكال مسيحيّة الدولة. فنظام لبنان السياسي هو نموذج لحقوق الجماعات التي لا تطغى على حقوق الأفراد. وهي تشكل ضمانة أساسية في مواجهة المحيط الذي يدعو الى طغيان الدين على الدولة.

المسار الرابع ذو ارتباطٍ عالمي، بحيث إنّ مسيحيّة الرئاسة هي ضرورة دولية في ظلّ الاضطهاد المستمر للمسيحيين في المنطقة المحيطة بلبنان. الأحداث في مصر، اضطهاد مسيحيّي سوريا، هجرة مسيحيّي العراق… تجعل من مسيحيّة الرئاسة حاجة ماسّة لإعادة التوازن وصَدّ التيارات الإسلامية الصاعدة سنّية كانت أم شيعيّة وتعليم حدود المواجهة فيما يُعرف بصراع الحضارات.

انطلاقاً من هذه المقاربة، لا بدّ لنا من إعادة الاعتبار الى موقع الرئاسة حين تجبر كلّ القوى السياسية اللبنانية على تصويب الهدف والعمل على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها.

الهدف منها الإتيان برئيس مسيحي يُؤمن بنهائية الكيان اللبناني وحياده عن كلّ الصراعات الإقليمية البعيدة من جوهر نشأته، ويُعيد إلى المسيحيين دورهم الرائد في عملية تحرير المجتمعات في الدول المحيطة الغارقة في صراعات تعود للقرون المظلمة والتي تُلقي بظلالها على مختلف المجموعات اللبنانية الإسلامية.

مسيحيّة رئيس الجمهورية الفاعل في لبنان هي استمرار لمبدأ حرّية الفرد والعدالة الاجتماعية عبر تفعيل مبادئ شرعة حقوق الإنسان، وحرّية الجماعات من دون التعدي على حرّية الأفراد وحقوق المواطن.

الباحث في العلوم السياسية