IMLebanon

“البوسطة” وتجاوز “الزيح”

 

من مفارقات تذَكُّر “حرب السنتين” هذا العام أن الذين خاضوها فعلياً يومذاك، لبنانيين وفلسطينيين، يرفضون بشدة عودتها بعدما أجرى معظمهم مراجعات وقدَّم اعتذارات، فيما الذين يستنسبون فتح بعض ملفاتها مفاخرين بنظافة أيديهم من الدماء يتصرفون وكأنهم يعيشونها أو يحضِّرون لما يشبهها.

 

كلما اقتربت 13 نيسان أحاول تجنب استعادة ذاك اليوم المشؤوم من العام 1975. والذكرى تحولت مناسبة سنوية لإعلام باحث عن إيقاظ الحساسيات، فتُنشر صورة “البوسطة” الشهيرة، ويتم إنعاش ذاكرتنا بما فعلناه خياراً أو قسراً، دفاعاً مشروعاً أم اعتداءً سافراً، ذوداً عن الدولة والكيان أم انتصاراً لولاءات لها تبريرات ايديولوجية وطائفية. وحبذا لو يُكتفى بسرد تاريخي، بل يتم إسقاط الفظاعات على واقعنا الحالي وتكييفها لخدمة هدف سياسي آني، وهو حالياً الانتخابات.

 

ورغم انه لا يثير الاهتمام عموماً مرور 47 عاماً وليس 25 أو 50 على حدث ما، فيبدو أن “حربنا” حاضرة “كأنها أمس”، ذلك ان ما شهدناه من أهوال بعد توقف المدفع رسمياً مع تسليم الميليشيات سلاحها للدولة (باستثناء واحدة) يُسهِّل نكء الجراح. فلا توقَّف سياقُ العنف، ولا كُتبت رواية موضوعية يتم الاستناد إليها لتنقية الذاكرة. طغت التعويضات على المصالحات وبقي مفتوحاً جرح المختفين والمعتقلين.

 

لماذا لا تنتهي “حرب السنتين” من الانتهاء؟ الجواب بسيط: لم تقم دولة، ولم يسمح لها بالقيام، لا في ظل الوصاية السورية ولا في زمن هيمنة محور ايران. قامت محلها “منظومة الإجرام”. وتعرّض اتفاق الطائف- الذي يفترض انه أنهى الحرب ووضع خطاً فاصلاً بين العنف والسلام- للانقلاب ومحاولات الاغتيال باكراً. ومذاك لا تتوقف “البوسطات”، من 14 شباط الى 4 آب وما بينهما من وقفات دموية كادت تكرّر تفجير لبنان.

 

كان لافتاً في اليومين الأخيرين ترديد “أخطاء شائعة” لازمت الحرب وتوصيفاتها وبرّرت حدوثها. فشعار “حرب الآخرين على أرض لبنان” لم يكن سوى اختزال ضعيف وإبراء ذمة للبنانيين لا يستقيم مع الوقائع وواجب تحمل المسؤوليات. أما رد الانفجار في 13 نيسان الى توقيع “اتفاق القاهرة” ففيه تبسيط سطحي شديد، لعِلمنا أنه عكَس موازين القوى وواقع تفكك الدولة حينذاك، خصوصاً مع تحول المخيمات والمدن الساحلية الكبرى الى غابة سلاح… وتتمثل السذاجة الكبرى في تحميل “النظام الطائفي” أسباب الحرب والشرخ العمودي، وكأن علمانية بَعثَي سوريا والعراق حمتهما من التفكك وأنهار الدماء!

 

لا ينتهي سرد أسباب الحرب في لبنان. لكنها ليست بين خير وشر بالتأكيد. أقرب وصف لها أنها “حرب أهلية – إقليمية”، مع ما يختزنه التعبير من تفسيرات وتعقيدات من دون تبرئة النفس ولا جلد الذات. أما لماذا لا يتم التوافق على التوصيف، فلأن الحرب لم تنته عند فريق من اللبنانيين. كأنّه يخوضها بمفعول رجعي، رافضاً الدولة سقفاً حاضناً للجميع، وغير مهتم إن عرَّض مشروعُه السياسي “الفوق وطني” السلم الأهلي للخطر أو أعاد تجميع “بوسطة” تفتعل 13 نيسان جديداً.

 

من يريد عودة “البوسطة” هو من يرفض التقيّد بالـ”زيح” الضروري لدفن الأحقاد والحروب مثلما علّمتنا تجارب التاريخ والشعوب. و”الزيح” هذا هو “إتفاق الطائف”.