IMLebanon

الحفاظ على الشعبية بالشعبوية

 

 

عن شراكة الشعب مع الشعبوي في الفساد «شيّلني واشيلك دنا برض فرحت لك وانا بتاعك يا بيه، واعرف ما اعرفش ليه وكام عبد المعين لابد فالمسؤولين وانا بتاع كل حاجه ودراعك اليمين وسواق المدير وهتيف الوزير ومهماز المدام ونبوت الغفير وفراش العيادة وخدام السيادة للي من غير سنادة يتعكّز عالسرير وناس بدم ساقع واقفين ورا البراقع يميعوا المبادئ يضيعوا الشرائع وناس من خلف شيش خايفين من الشاويش سلبيه الميه الميه تعالى لا ما اجيش» أبوك السقا مات. أحمد فؤاد نجم

منذ أيام، قامت إحدى محطات التلفزيون، بمناسبة نهاية السنة، بعرض رأي ظريف حول أهضم السياسيين وأكثرهم كرهاً وأكثرهم حظاً أو أقلهم، لكنني لم أسمع بأي سياسي في التقريري يُعتبر رجل دولة العام المنصرم، ولا أظن أنه كان من الممكن تعريف بأي واحد من السياسيين كرجال أو نساء دولة، على مدى أكثر من عقد من الزمن. السياسي يفقد حتمًا صفة رجل أو امرأة دولة، بمجرد أن يكون الهم لديه منصبّ على مدى التأييد الشعبي وحجم الهتافات التقليدية «بالروح والدم نفديك يا فلان» وبطبيعة الحال، في مجتمع ذكوري كمجتمعنا، من الصعب أن نسمع هتاف «بالروح بالدم نفديك يا فلانة»، لكن ذلك لا يغيّر في كون السياسيين والسياسيات في بلدنا، من دون تعميم بوجود استثناءات نادرة، يطربون لسماع الهتافات بشكل يتجاوز الجندرية، ليتساوى رجالنا ونساؤنا في هذا المجال على الأقل.

 

ما سمعته من كل الحكماء والخبراء في مجال الإصلاح الاقتصادي والسياسي في بلد منهار، وهو ما أعرفه مسبقًا على كل الأحوال، هو أن الإصلاح في أي بلد أو منظومة ديموقراطية تعتمد على الانتخابات، يحتاج إلى سياسيين فدائيين مستعدين لسماع الشتائم وتَقبّل حنق الرأي العام، مع شبه حتمية السقوط في الانتخاب القادمة، في سبيل تغيير المسار التدميري الذي تغزّيه هتافات القطط التي تلحس المبرد، فرحة بطعم الدماء، في حين أنها تأكل ذاتها.

 

منذ أيام، سمعت حديثًا غير شعبي واستثنائيًا غير شعبوي من أحد السياسيين المصنفين بالأكثر «هضامة» في لبنان. ومع أنني لم أطرب يومًا بهضمناته السابقة، لكنه بدا لي في هذا اللقاء في لحظة تجلٍ، وربما تخلٍ، مع العلم أنه لم يكن يومًا بتصرفاته مثالًا يحتذى به كرجل دولة. ما لنا وله فالمهم مضمون ما قاله. قال الرجل ان ثلاثين سنة من سياسة الدولة أدت إلى انهيار الدولة فوق رؤوس الناس بعد فشلها. قد يثير هذا الكلام الكثير من الجدل، لكن المهم والمصيب وغير الشعبي كان قوله إن الشعب بشكل عام كان شريك مَن أدار الدولة في نهبها، أي في لحس المبرد. ثم أكد بأن الناس لا يجب أن يدّعوا العفة لينفضوا يدهم من دم البلد المسفوح، فهم شركاء في الجريمة مع السياسيين. شركاء أولًا لأنّ الشعب بالنهاية هو من انتخب ممثليه، وحتى من استنكَف عن الانتخاب، لأي سبب كان، أو استقال من الواجب، ساهم بشكل سلبي بإيصال مَن يشكو منه إلى السلطة. فالناس الذين يشكون اليوم ويتذمرون ويؤكدون على فساد ممثليهم، عادوا وانتخبوا النوعية ذاتها، حتى وإن تغيرت بعض الأسماء وغابت أخرى.

 

قال السياسي المهضوم بالحرف انه على مدى ثلاثين سنة، ثمانون بالمئة من الشعب اللبناني شاركَ حكامه في نهب الدولة. فمثلًا، تضخمت فاتورة وزارة الصحة، وحتمًا ليس فقط لخدمة المحتاجين، وأنا كطبيب يمكنني التأكيد على ذلك. لقد تقاعس الكثيرون من القادرين على شراء تأمين صحي شخصي لهم ولعائلاتهم، لعلمهم أنه يمكنهم أن يركنوا سيارتهم الباهظة الثمن في موقع ممنوع فيه الوقوف أمام المستشفى لتفادي دفع بدل الركون في الموقف. ثم يدخلون مباشرة إلى غرفة خاصة في الدرجة الأولى، وأحيانًا لإجراء عملية تجميل غير حيوية، على حساب وزارة الصحة. وكان الوزير الساعي، ولن أذكر أسماء، لينتخب بأعلى الأصوات مع اقتراب الانتخابات، يصدر قرارًا استثنائيًا لتغطية تكاليف العملية مئة بالمئة على حساب الوزارة، أي الدولة أي مال الخزينة العامة أي ما هو مسحوب من أموال المودعين بالنهاية. وهذا المواطن ذاته يتهرب من دفع الضرائب ويستولي على مقلع للحجارة، يشغّل فيه أبناء القرية الذين يحلفون باسمه، ومن ثم باسم الوزير، فينتخبوا صاحب المقلع بعد أم جمل ذاته ويدخل في لائحة مشتركة مع الوزير، ومن يلحسون المبرد يهللون.

 

ما قاله السياسي المهضوم هو أن لا حق للمواطن بالتحجج بعدم وجود الدولة للتهرب من مسؤوليته في الحفاظ على البيئة واحترام قانون السير وعدم التعليق على شريط الكهرباء، وفك الكابلات وأغطية مصارف المياه وحفر الطريق أو قطعه، ومن ثم التبرؤ من شراكته في الجريمة. في ملف الكهرباء قال: أين ذهبت أربعون مليار دولار خسارة؟ فصحيح أن الوزير وأعوانه ارتشوا أو استفادوا من صفقات فاسدة، لكن المواطن الذي تَمنّع عن الدفع وسرق الكهرباء شريك أساسي في انهيار قطاع الكهرباء وسقوط الدولة.

 

وحتى بعد أن ثار الناس على كل القديم، بفاسديه أو أبريائه، حالمين بالتغيير والتغييرين، شارك ممثلوهم الجدد بالإجمال في حفلة النفاق مُجبرين، فمن دخل السوق باع واشترى، أو لا مكان له بالسوق إلا أن يتفرّج على الصفقات.

 

منذ أيام، وليست المرة الوحيدة طبعًا، دخل عليّ شاب ملء ثيابه، لا علّة فيه أو شائبة صحية، وطلب مني أن أتوسّط له ليتم تثبيته في مصلحة حصر التبغ والتنباك لكونه متعاقد. فسألته عما يفعله في المصلحة، فقال لا شيء! لكنه يقبض المعاش، مثله مثل بضعة آلاف من الموظفين في المصلحة الذين لا يفعلون شيئًا، كما هم موظفو سكة الحديد. بالطبع أكدت له أنني لا أتوسّط في أمر كهذا ونصحته بما أن المصلحة سيتم تصفيتها في أي عملية إصلاحية، فما عليه إلا أن يتدبّر منذ الآن مجال عمل آخر. استهزأ الشاب باقتراحي مؤكدًا أن لديه متجر سمانة يعمل فيه. ثم أردف وقال: «ما همك أنت؟ فالوظيفة على حساب الدولة وأنت تريد قطع أرزاق الناس… لو كنت غير ذلك لنجحت في الانتخابات». فشكرتُ عندها حسن طالعي بسقوطي في الانتخابات الأخيرة، وفهمتُ أحد أوجه شراكة المواطن المسكين مع السياسي حامل هم المساكين.

 

فقط منذ يومين، اضطررت لقطع استماعي لنائب شعبي آخر، عائد إلى ورثته النيابية، لأفرغ علبة مضاد للغثيان في معدتي، ثم قلت لنفسي، كما قال زياد الرحباني: «قوم فوت نام وصير حلام إنو بلدنا صارت بلد…».