IMLebanon

مفهوم الحوار: بين الزعامات القبليّة وفقه اللغة العربيّة!

 

يدور الكلام في لبنان، أكثر ما يدور، حول موضوع الحوار. ويربط البعض بشكل مبدئي بين مفهوم الحوار وانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. وينقسم الرأي بين مصرّ عليه كحاجة لا بدّ منها وبين رافض له كعامل مناقض للدستور.

 

وكالعادة يتمّ الدفاع عن وجهتي النظر بمزيد من المشاعر والطروحات التي تعكس اتجاهات نفسيّة وذاتيّة أكثر ممّا تعكس حقائق علميّة وموضوعيّة. وللخروج من هذا الجدل البيزنطي الذي لا يخدم القضية الوطنية وجدنا من الواجب الخروج من الاصطفافات القبلية والعودة إلى رحاب فقه اللّغة العربية كي نتبيّن بالضبط ماذا يعني مفهوم الحوار ومتى يكون لازماً ومتى يكون زائداً، ومتى وبأي شكل يكون مفيداً، ومتى وبأي شكل يكون مضرّاً بالحياة الوطنية!

 

في معجم مقاييس اللغة «لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا، وهو من أمهات كتب فقه اللغة العربية» يعيد الكاتب الحوار إلى جذره الأساسي فعل «حَوَرَ» ويقول: الحاء والواو والراء ثلاثة أصول: «أحدها لون، والآخر الرجوع والثالث أن يدور الشيء دوراً» فالحوار شدّة بياض العين في شدّة سوادها.

 

ويقال لأصحاب عيسى عليه السلام الحواريون لأنهم كانوا يحوّرون الثياب أي يبيّضونها. وأحوّر الشيء أي أبيّضه، وأما الرجوع فيقال حار إذا رجع. وكلُ رجوع ونقص فيه حور. وأعوذ بالله من الحور بعد الكور. أي من النقص بعد الزيادة. وثالثها إدارة الشيء لاستقراره في مكانه. وفي «محيط المحيط» للمعلم بطرس البستاني، حار الرجل يحور حوراً ومحارة، رجع، حوّر الخبزة ليضعها في مكانها. وحاوره محاورة جاوبه وراجعه في الكلام. وتحاور القوم: تجاوبوا وتراجعوا الكلام بينهم.

 

من هذه النصوص المرجعية حول فكرة الحوار يمكن استخلاص خمسة معانٍ تتعلّق بالحوار:

 

أ‌- التعدّدية أي أنّه لكي يكون هناك حوار ينبغي أن يكون هناك أكثر من شخص واحد ليحاور الآخر وليس ليحاور نفسه.

 

ب‌- معنى البياض إذ ارتبط معنى الحوار بفكرة البياض في الكون: الأجسام والأشياء والثياب وربّما النوايا.

 

ج‌- الرجوع: إذ إنّ كل نقص ورجوع هو حور عند العرب ومنه المثل عند العرب: نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومعناه النقصان بعد الزيادة.

 

د‌- وضع الشيء في مكانه كوضع الخبزة في آلة الفرن للإستواء.

 

ه‌- الكلام المتبادل والمراجعة في الكلام إذ يقوم الحوار على تبادل الكلام بين المتحاورين بما يسمح لكل منهم بمراجعة كلامه ورأيه في ما يجري الحديث عليه وعنه.

 

يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الحوار عمليّة فكريّة لغويّة لها أصولها التي ينبغي أن يتقيّد بها المتحاورون وإلا كان الحوار مجرّد نوازع شخصية غير خاضعة لقيم ومعايير فكرية وفلسفية واجتماعية، وكأن الحوار أشبه بملهاة منه بعملية بناء للعلاقات الاجتماعية السليمة والناجحة والناجعة.

 

ينبغي التفريق بين حوار حرّ سواء في موضوعه أو أشخاصه أو استهدافاته. فهو حوار غير مقيّد بضوابط خارجة عنه. وبين حوار مقيّد في موضوعه وأبعاده ومدّته وأهدافه كأن يكون الحوار مقيّداً بالنصوص الدستوريّة التي تحكم العلاقة بين المتحاورين. في مثل هذه الحال ينبغي على المتحاورين أن يتقيّدوا بالنصوص الدستورية التي تحدّد وتحكم علاقتهم ببعضهم البعض وبقوى الأمّة وبالنظام العام للدولة.

 

الدستور أم الحوار

 

في هذا المجال يصبح السؤال الأساسي المطروح هو التالي: أيّهما يتقدّم على الآخر في الاعتبار والممارسة: الدستور أم الحوار؟ والجواب الذي ليس بحاجة إلى تفسير هو بالتأكيد تقدّم الدستور على الحوار. فالقاعدة في ذلك هي التالية: الدستور يشكّل تبريراً للحوار ولكن الحوار لا يمكن أن يشكّل مبرراً للدستور. فالقاعدة في ذلك واضحة ولكنها لا تُعكس! إنّ الحوار الذي تدعو له بعض القوى السياسية في لبنان هو حوار يتناول الأصول وليس الفروع. وهكذا فالقبول بإجرائه كما يتوخّى الانقلابيون هو قبول بإسقاط الأصول الدستورية لحساب أصول غير معروفة ومضمونة المفاهيم والنتائج. لذا يصبح الرفض هنا ليس رفضاً للحوار كمفهوم فكري، بل كنقيض لدستور الأمّة وعلى هذا المنعطف الصعب يجري قبول الحوار أو رفضه.

 

إنّ صياغة دستور للأمة يعني أنّ جميع المراحل قد قطعت لاختيار هذا الدستور وصياغته بما في ذلك الحوار بين أبناء الوطن حول مندرجات الدستور. إن وضع الحوار قبل الدستور، بل وعلى حسابه، يعني إعادة النظر في صلب القضية اللبنانية. لذا فإنّ المنطق السليم يفرض إجراء الحوار على ضوء الدستور لا على حسابه.

 

إنّ ما يحصل الآن هو صراع حقيقي بين الزعامات القبليّة التي تتمسّك بالحوار على حساب الدستور وتودّ أن تفرض أولوية الحوار على أولوية الدستور بديل أن يكون العكس. والذين يسألون لماذا يتم ذلك يتناسون أنّ في لبنان قوى وزعامات ذات توجّه قبليّ وثقافة قبليّة وممارسات قبليّة تسقط من حسابها الوجه الديمقراطي الليبرالي للأمّة وتوّد فرض المعايير القبليّة على حياة اللبنانيين السياسيّة من خلال أطروحة الحوار الملغومة.

 

في الخلاصة، إنّ دعاة الحوار في لبنان هم أكثر الناس بعداً عن الحوار بل هم أعداء الحوار لماذا؟ لأنهم ينطلقون عملياً وفعلياً من مذهبيّة ماورائيّة يفسّرون من خلالها وقائع وأحداث الكون. وهذه المذهبية، مهما حاولوا أن يترجموها أحياناً بمعطيات سياسية، هي مذهبية ذات جذور دينيّة وبالتالي فهي قائمة على أسس وقيم ومسلمات ثابتة لا يمكن التغيير فيها ولا يمكن الحوار حولها. بالمقابل فإنّ السياسيين اللبنانيين هم عملياً آباء الحوار الحقيقي والمفيد لشعب لبنان في إطار الدستور واتفاق الطائف.

 

باختصار، ينبغي أن تتوقّف سلطة القيادة القبليّة وتفسح في المجال لسلطة القيادة الديمقراطية. في هذا التحوّل المطلوب والمرغوب يكمن خلاص لبنان ويكون فيه الحوار المطلوب خدمة للشعب والدستور وليس على حساب الاثنين معاً.