IMLebanon

هل الفتنة واردة في لبنان؟

عندما يلعب السياسيون بالاستقرار السياسي، «على راحتهم»، يقلق الأمنيون كثيراً وتزداد هواجسهم. لقد اعتادوا التدقيق في العلاقة الغامضة ما بين السياسة والأمن. ولذلك، عينُ الأجهزة اليوم «عشرة عشرة»، والناس يسألون: هل الوضع الأمني مضبوط فعلاً، وهل لبنان في منأى عن الفتنة؟

يكشف وزير سابق أنّ بعض القوى الداعمة لـ»الجماعات التكفيرية» حاول في مرحلة سابقة من الصراع السوري تفجير فتنة مذهبية في لبنان، اعتقاداً منه أنّ ذلك سيؤدي أربع وظائف:

1 – فتح جبهة في خاصرة «حزب الله» تضعفه في مواجهة خصومه السنّة وتخفِّف من اندفاعته في السيطرة على السلطة في لبنان.

2 – إلهاء «الحزب» عن مهمته السورية ما يؤدي إلى تراجع قوة الرئيس بشّار الأسد في مواجهة القوى التي تقاتله. وفي بعض المراحل، بدا تدخُّل «الحزب» إلى جانب الأسد حيوياً لمنع سقوطه في العديد من المناطق، بما فيها العاصمة دمشق.

3 – إنّ تراجع نفوذ «الحزب» في لبنان سيتيح تمدُّد نفوذ القوى التكفيرية في لبنان بسيطرتها على مناطق محدّدة، ولاسيما صيدا- عبرا- عين الحلوة، طرابلس وعكار، وعرسال.

4 – إنّ تراجع قوة «حزب الله» في لبنان وقوة حليفه الأسد في سوريا سيضع حداً لامتداد النفوذ الإيراني غرباً حتى شاطئ المتوسط.

وهذه الخطة – يقول الوزير السابق، تبلّغتها القوى الأساسية في لبنان، بما فيها «حزب الله». ولذلك سارعت السلطة اللبنانية إلى اعتماد أسلوب الهجوم وقائياً. ولذلك، كانت العمليات الجراحية التي أنهت حالة الشيخ أحمد الأسير في عبرا وأطفأت النقاط الملتهبة في طرابلس ووضعت عرسال تحت الرصد والسيطرة.

إصطدمت الخطة بعقبتين أساسيّتين أدّتا إلى تعطيلها:

– الأولى هي مناعة السُنَّة في لبنان ضد القوى المتطرّفة والتكفيرية. فالمرجعيات السُنّية المحلية، وعلى رأسها «المستقبل» هي قوى اعتدال وانفتاح، وهي تفهم تماماً خصوصيات الحالة اللبنانية. والمرجعية العربية الراعية للسنّة في لبنان، أي المملكة العربية السعودية، هي أيضاً ترفض المغامرة بالسنّة الللبنانيين ودفعهم إلى الخيارات الانتحارية.

– الثانية هي أنّ إعادة حساب دقيقة أجرتها القوى الخارجية المعنيّة بتفجير الوضع المذهبي في لبنان أظهرت لها أنّ النتائج العسكرية والسياسية لهذا التفجير ستكون في مصلحة «حزب الله» لا سواه.

وعلى العكس، قد تكون تلك فرصة لـ»الحزب» كي يُطبِق تماماً على زمام الأمور. فالذريعة جاهزة، وهي محاولة القوى التكفيرية أن تسيطر على لبنان أو على مناطق فيه. وسيحصل «الحزب»، لهذه الغاية، على تغطية القوى الدولية الراعية لاستقرار لبنان.

يتمتع «حزب الله» بوزن قتالي هائل تفتقده الطوائف الأخرى جميعاً في لبنان. ولذلك، ستكون المواجهة المذهبية معه انتحارية في المطلق، وعلى مختلف المستويات، لكنها في الدرجة الأولى انتحارية للقوى التي لا تمتلك عدّة المواجهة.

في تقدير الوزير السابق نفسه أنّ إسرائيل، من خلال علاقتها بهذه القوى الخارجية التي خططت للتفجير، كانت أيضاً ترغب في وقوع المواجهة السنّية- الشيعية في لبنان، ما يؤدّي إلى إغراق الجميع في الفوضى وانغماسهم في قتالهم. ولكنّ لبنان محميٌّ بالغطاء العربي- الدولي الضامن لاستقراره.

بعد هذا الاستحقاق، أي في العام 2013، وجد «حزب الله» أنه في حاجة إلى إحداث تعديل على خطته الأساسية التي قضت بإبعاد «المستقبل» عن السلطة وإضعافه. وقرّر فجأة تعويم دور الرئيس سعد الحريري. ومن دون سابق إنذار، فاجأ الجميع بتخلّيه عن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.

في لحظة معيّنة، تقاطعت المصالح على صفقة مرحلية بين «حزب الله» و»المستقبل» ترجمها سقوط الحكومة الميقاتية وتكليف الرئيس تمام سلام، القريب من «المستقبل» تشكيل الحكومة الجديدة، وتنازل «الحزب» عن وزارتي الداخلية والعدل لـ»التيار»… وصولاً إلى عودة الحريري.

وحظي هذا التقاطع في المصالح بدعم إقليمي- دولي، لأنّ الاتجاه العام كان منصبّاً على مكافحة التطرّف والإرهاب. وقد استفاد «الحزب» في لبنان والأسد في سوريا من المناخ الدولي لتثبيت المواقع.

اليوم، تبدو مرحلة سياسية جديدة قيد الولادة. وثمّة مَن يعتقد أنّ «الستاتيكو» الذي أنتجته اللحظة التسووية بين الشيعة والسُنّة يهتزّ أكثر فأكثر، وأنّ التحدّيات المقبلة قد تؤدي إلى انهياره. وعندئذٍ، يصبح مشروعاً التخوّف من اهتزاز الاستقرار الأمني. فهل يعني ذلك احتمال حصول احتكاكات مذهبية؟

المواكبون جيداً للملف الأمني في لبنان يعتقدون أنّ الشقّ الأول من السؤال، أي اهتزاز الأمن، ليس أمراً مستبعَداً. وأما الشقّ الثاني أي الفتنة المذهبية فهو مستبعَدٌ جداً.

فصحيحٌ أنّ لبنان يواجه تحدّيات جديدة في ضوء حروب التصفية التي تشهدها سوريا، ولاسيما في الشمال والشرق، لأنها قد تُخلّف انعكاساتٍ مباشرة على لبنان، لكنّ هذه الانعكاسات لا تشكّل خطراً على الأمن المذهبي.

ويستند هؤلاء في اطمئنانهم إلى الآتي:

في العمق، ليس هناك تنافر حقيقي بين القوى السنّية والشيعية الموجودة في السلطة. ففي اللحظات الحسّاسة، ما زالت تتمّ التسويات المذهبية المباشرة وغير المباشرة، على الطريقة اللبنانية، كما جرى تكراراً منذ الاتفاق الرباعي في العام 2005.

فغالبية المحطات الأساسية شهدت من ذلك التاريخ تسويات سنّية- شيعية صغيرة بهدف إدارة البلد. وحكومة سلام مستمرة ما دامت تعبّر عن تقاطع المصالح المذهبية. وهي لا تسقط إلّا إذا اختار أحد الفريقين إعادة النظر في قواعد فكّ الاشتباك. وهذا أمر لا يبدو وارداً في أيّ شكل.

ومن هنا يمكن فَهْمُ موقف «حزب الله» الملتبس بين مراعاة المعادلة المذهبية في الحفاظ على «الستاتيكو» ومراعاة العماد ميشال عون الذي يوفّر له التغطية المسيحية. وهذا ما عبّر عنه سلوك «الحزب» في جلسة الحوار الأخيرة وموقفه من جلسة مجلس الوزراء.

كما يمكن خصوصاً إدراك الخلفيات الحقيقية لظاهرة «تمرير الرسائل» غير المنظورة بين قوى عدة، شيعية وسنّية، في كلّ المحطات والاستحقاقات الساخنة، بما فيها الجولة الأخيرة الصاخبة من الحوار. وهذا يعني أن لا خوف إطلاقاً من مواجهة مذهبية في لبنان، مهما علت حدّة القتال في سوريا. فالطرفان المعنيان يديران جيداً شؤونهما اللبنانية.

هل ابتعاد المخاوف من الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة، فيما الخوف معدوم من فتنة طائفية بين المسيحيين والمسلمين، يعني أن لا خوف على الاستقرار في لبنان؟

المعنيون بالأمن يخشون مفاجآت من نوع آخر. فـ«التوتير المضبوط» كان في محطات عديدة جزءاً من «عدّة الشغل» بالنسبة إلى بعض القوى المحلية، وهو ساعدها في تحقيق الكثير.

يضاف إلى ذلك عامل التوتير الخارجي. ففي الصراعات الأهلية الدائرة في سوريا والعراق واليمن وسواها هناك عناصر عدّة يمكن اعتبارها «غير مفهومة» و»غير مضبوطة»، و«داعش» والتنظيمات الرديفة هي أبرزها. وليس واضحاً هل ما زالت هذه الجماعات تتلقّى الدعم من قوى خارجية، في شكل مستتر، أم إنّ كلّ أنواع الدعم السابقة قد توقفت؟

الإجابة على هذا السؤال تحدِّد: هل هذه الجماعات ما زالت تمتلك الهوامش التي تسمح لها بافتعال توترات وصدامات و»ميني فتن» موضعية في لبنان؟

البعض يخشى اندلاع مواجهة بين السوريين المقيمين في لبنان، يتورّط فيها لبنانيون. لكن ما يجري في الفترة الأخيرة لجهة تسليم بعض المرتبطين بالجماعات المتطرفة أنفسهم في عين الحلوة وخارجها، يوحي بأنّ هذه الجماعات تفقد الأمل بالاستيلاء على منطقة لبنانية- وأيّ مخيم- والانطلاق منها. وهذا ما يدفع المرتبطين بها إلى حماية الرأس. وهؤلاء يشكلّون كنزاً أمنياً للأجهزة اللبنانية، لأنهم يزوِّدونها الكثيرَ من المعلومات عن خفايا الحراك الذي تقوم به الجماعات الإرهابية أو ما تريد القيام به.

وفي المحصلة، قد تكون الفتنة الطائفية والمذهبية تحت السيطرة لأنّ القوى الداخلية تمرِّر التسويات تحت الطاولة. لكنّ الاستقرار الأمني لا يبدو مضموناً في شكل كامل، لأنّ الأمن يبقى أداة ضغط سياسي قد يلجأ إليها القادرون على استخدامها، في الداخل كما في الخارج، وهم كثيرون.