IMLebanon

من حكايا لبنان السياسية 2/2 بشير الجميل.. رئيساً منتخباً لم يتسلّم سلطاته الدستورية

 

بعد أن أصبح بشير الجميل مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية في العام 1982، تولى غابي لحود تسوية الأمور مع شقيقه أمين، واقناع الأخير بالأمر كما جاء في الحلقة السابقة التي لم يشر إلى ان لها جزءاً ثانياً (مع الاعتذار من القراء).

المهم انه بعد جدال طويل، بين غابي لحود وأمين الجميل في الاجتماع الذي جرى بينهما في الغرفة التي ينام فيها لحود في القصر الجمهوري، اقتنع أمين، وشكرني على مصارحتي له، فلم يصدق جوني عبده في البداية، لكنه تأكد لاحقاً ان أمين مشى فعلاً ولمس بشير ذلك.

وصار بشير المرشح الوحيد لانتخابات رئاسة الجمهورية التي حددها الرئيس كامل الأسعد يوم 23 آب 1982 في المدرسة الحربية في الفياضية. وتم فيها انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية وكان له من العمر 34 عاماً، وهو الرقم 7 في لائحة رؤساء الجمهورية في عهد الاستقلال. وقد نال الرئيس المنتخب 57 صوتاً مقابل خمس أوراق بيضاء وورقة واحدة حملت اسم ريمون إده. وقاطع هذه الجلسة ثلاثون نائباً هم: جميل كبي، رشيد الصلح، زكي مزبودي، صائب سلام، فريد جبران، محمّد يوسف بيضون، نجاح واكيم، عبد اللطيف بيضون، علي الخليل، نزيه البزري، البير مخيبر، توفيق عساف، ريمون إده، ناظم القادري، زاهر الخطيب، منير أبو فاضل، أمين الحافظ، باخوس حكيم، رشيد كرامي، صالح الخير، عبد المجيد الرافعي، عبد الله الراسي، هاشم الحسيني، البير منصور، حسن الرفاعي، حسن زهمول الميس، حسين الحسيني، عبد المولى امهز، احمد اسبر، سليم الداود.

اثر انتخابه في 23 آب 1982، أدلى الرئيس المنتخب بشير الجميل بتصريح قال فيه: «نأمل ان تكون نتيجة الانتخابات بداية خير وتوحيد، وإعادة السيادة والرفاهية لنا جميعاً كلبنانيين، وآمل ان نستطيع بعد اليوم ان نقول ان الحرب انتهت وبدأت فترة السلام والطمأنينة»، فهل كان الأمر كذلك؟

لقي انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية ردود فعل واسعة مؤيدة ومرحبة بانتخابه، كما لقي معارضة من أوساط إسلامية ومسيحية ويسارية، من امثال: الرؤساء سليمان فرنجية، رشيد كرامي ورشيد الصلح، والعميد ريمون إده ووليد جنبلاط واحزاب الحركة الوطنية وغيرهم.. وسجل في اليوم التالي للانتخاب عدد من العمليات ضد ممتلكات بعض النواب الذين حضروا جلسة الانتخاب واقربائهم، حيث أطلق مسلحون مجهولون النار على ابن عمة النائب محمود عمار فقتل، واقدم مسلحون على حرق شركة محمّد علي الصباح للانتاج السينمائي والتي يُشارك فيها النائب أنور الصباح، كما تعرض منزل النائب ملكون ابلغتيان لقذائف صاروخية أدّت الى احراقه، وتعرض منزل النائب يوسف حمود لقذيفة (ب -7) أدّت إلى اندلاع حريق فيه، كما تعرض منزل النائب عبد اللطيف الزين لعملية مماثلة، كذلك تعرض منزل النائبين فؤاد الطحيني وسالم عبد النور لعمليات مماثلة، واطلق مسلحون مجهولون قذيفة صاروخية على منزل الوزير سامي يونس، فاندلعت فيه النيران، كما احرق المسلحون منزل النائب عثمان الدنا، وتعرضت محلات (أ.ب.ث) في طرابلس التي تخص النائب موريس الفاضل لقذيفة صاروخية، واحرق المواطنون أيضاً في طرابلس مكتب النائب طلال المرعبي، وتعرض منزل النائب فؤاد غصن في كوسبا – الكورة للتدمير الكامل، وذكرت الإذاعات آنئذ ان مواطنين في شتورة اقدموا على حرق منزل الرئيس كامل الأسعد.

على أي حال، فقد بدأ الرئيس المنتخب فور إعلان فوزه حركة واسعة وسريعة واتصالات علنية وسرية مع كل الأطراف.

وبعد يومين من انتخابه بدأت القوات الفلسطينية والجيش السوري الخروج من بيروت، اثر وصول القوات المتعددة الجنسيات، وذلك عملاً بالاتفاق الذي توصل إليه المبعوث الأميركي – اللبناني الأصل فيليب حبيب مع كل من الرئيس السوري حافظ الأسد، ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، الذي غادر مرفأ بيروت بعد خروج كل القوات الفلسطينية في الثلاثين من آب إلى العاصمة اليونانية، أثينا.

في غضون ذلك، كان لافتاً موقف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، تشارلز بيرسي الذي دعا القادة المسلمين إلى مد أيديهم إلى الرئيس المنتخب بشير الجميل، كما يمد يده إليهم، واعتبر انه إذا كان على لبنان ان يتواجد بنجاح كما نأمل ونرجو، فعلى كل الجهات ان تقدّم تنازلات صعبة وان تمارس الاعتدال، وعلى الجميع ان يتفقوا على هدف تسريع انسحاب القوات الأجنبية من البلاد.

في ظل هذه التطورات، أخذ الجيش اللبناني يُعزّز انتشاره في المواقع التي انتشرت فيها القوات المتعددة الجنسيات المشكلة من وحدات أميركية وبريطانية وفرنسية وايطالية، منفذاً بذلك خطوة أساسية في البرنامج الموضوع لحل أزمة بيروت وضاحيتها الجنوبية نهائياً، والذي أخذ ينجلي في 28 آب ببدء رفع الحصار التمويني الذي فرضه الجيش الإسرائيلي على بيروت الغربية منذ أكثر من 55 يوماً، وسمحت قوات الغزو بإدخال الطحين والمواد الغذائية بعد ان كانت قد افرجت عن الماء والكهرباء.

وفي الأوّل من أيلول توجه الرئيس المنتخب بشير الجميل إلى نهاريا حيث التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، ووزيري الدفاع والخارجية ارييل شارون واسحاق شامير. وحسب المراسل السياسي للاذاعة الإسرائيلية شيمون شيفر، فقد «تبادل بيغن وبشير في مستهل هذا اللقاء الكلمات الترحيبية، ثم انفردا في اجتماع في حجرة جانبية ليتابعا المحادثات في ما بينهما، التي تخللها نقاش حاد استمر حتى وقت متأخر من الليل، تقرر في نهايته تشكيل لجنة رسمية من ممثلين من دوائر رئيس الحكومة ووزارتي الخارجية والدفاع الإسرائيلية، ومن شخصيات رفيعة المستوى من إدارة الجميل مهمتها البحث في مستقبل العلاقات بين إسرائيل ولبنان».

ويؤكد شيفر، ان الجميل «خرج من هذا اللقاء مستاء من لهجة بيغن، واستشاط غضباً، عندما أعلنت الإذاعة الإسرائيلية خبر اللقاء، لأنه كان مقتنعاً بأن هذا التسريب مقصود لارباكه، والحد من مجال اتصالاته مع الأوساط الإسلامية في لبنان».

وإذ كان لافتاً آنئذ ما صدر عن مكتب الرئيس المنتخب من نفي لما بثته الإذاعة الإسرائيلية عن هذا اللقاء، فإن كريم بقرادوني يُؤكّد هذا الاجتماع ويقول: «في أوّل أيلول توجه بشير الجميل إلى نهاريا واجتمع برئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، وعاد في حالة غضب ظاهر، وقال لي: مش ماشي الحال مع إسرائيل، بيغن يريد مني ان اوقع معاهدة سلام فورية، وقد رفضت طلبه، وقلت له: بإمكانك ان تعتقلني ولكن ليس بإمكانك ان تحملني على توقيع معاهدة لست مقتنعاً بها، وكان هذا الاجتماع على حدّ قول بشير انه من أسوأ الاجتماعات في حياته».

ويعلق كريم بقرادوني على هذا اللقاء ونتائجه فيقول: شعرت ان بشيراً يعي تماماً مسؤولية الرئاسة ومستلزمات الحكم والوحدة والسيادة فتفاءلت وقلت له: حسناً فعلت برفضك الانصياع لبيغن، وبرأيي اننا سنواجه صراعاً اميركياً – اسرائيلياً حول لبنان، فالقيادة الإسرائيلية تستعجل ابرام كامب دايفيد لبناني جديد من دون أميركا، وأميركا مستعجلة لتوسيع كامب دايفيد السابق بإدخال الأردن، وفي الوقت نفسه لا هذه ولا تلك تفرد للمصلحة اللبنانية موقعاً في أولوية اهتماماتها».

يضيف بقرادوني: «لاحظت ان أوّل مؤشر لبداية التجاذب الأميركي – الإسرائيلي تجلى في استقالة وزير الخارجية الأميركية الكسندر هيغ في 25 حزيران الذي كان يريد ان تتطابق السياسة الأميركية مع إسرائيل في لبنان والشرق الأوسط بصورة مطلقة ومئة بالمئة ورأيت ان الحالة اللبنانية لا تتحمل هذا التجاذب وعلينا طرح معادلة تخرج عن النطاق الأميركي – الإسرائيلي فنبدأ المفاوضات مع سوريا حول الانسحابات من لبنان. كما اقترحت على بشير تعميق اتصالاته بالصف الإسلامي في لبنان، ومع العالم العربي. وذكرته بأن إشارات مشجعة تلوح في الافق: كامل الأسعد يؤيده بشكل كامل وهو زعيم شيعي مقتدر، ورئيس الحكومة الأسبق صائب سلام على استعداد للتعاون معه، وهو زعيم سني يتمتع بموقع راسخ، وتعمدت ان يحس بشير بأن الخيار العربي ممكن ومفيد وانه ليس سجين الرهان الإسرائيلي وحده. وكان لكلامي تأثير كبير فيه، وفاتحني بأنه كان يريد ان يُخفي عني شيئاً حدث في نهاريا وفي بيروت، وهو ان تسليمي منصباً وزارياً في عهده يصطدم بفيتو من جهتين: من مناحيم بيغن ومن بيار الجميل. بيغن قال لبشير: لدينا معلومات انك تفكر في تعيين كريم بقرادوني وزيراً للخارجية وهذا الأمر لا يريحنا لأن بقرادوني عميل سوري. وأضاف بشير: اما الشيخ بيار فيريد ان يتمثل الحزب بغيرك، أنت مشكلة لا تحتمل».

يتابع كريم بقرادوني فيقول: «كنت ادرك مدى تغيير صورة بشير الإسرائيلية، لكنني كنت واثقاً من انه غير مرتبط بالخارج وانه على استعداد لإعادة النظر في الرهانات التي فرضتها ضرورات الحرب، وان لديه من الشعبية والشخصية ما يسمح له بتخطي حالة اليأس من العرب إلى الاعتماد عليهم. وكبر الحلم بأن يقود بشير ثورة سياسية بعد ان نجح في قيادة مقاومة عسكرية، فنعبر من الجمهورية الأولى إلى الثانية، عن طريق تحديث المؤسسات وتجديد الطاقم السياسي، وإطلاق جيل جديد متحرر من الاقطاع والعقد الطائفية».

ويشدد بقرادوني، على انه «بعد اجتماع نهاريا، ادرك بشير ان علاقته بإسرائيل لن تكون سهلة واتجه إلى الاعتماد على أميركا، وصادف وصول كسبار وينبرغر وزير الدفاع الأميركي إلى بيروت لكي يتفقد القوة المتعددة الجنسيات، وعرض عليه بشير ان تعتمد واشنطن الأراضي والموانئ اللبنانية قاعدة عسكرية واستراتيجية لها في الشرق الأوسط. وكان بشير يعتقد ان هذا الاقتراح في حال تنفيذه، يجعل من لبنان منطقة أميركية، ولا تعود تتجرأ إسرائيل ولا غيرها على التدخل في شؤون لبنان الداخلية، أو المس بسيادته الوطنية وسلامة أراضيه، وقد فوجئ الوزير الأميركي بهذا العرض واستغربه، لكنه وعد بنقله إلى البيت الأبيض».

وواصل الرئيس المنتخب تحركاته السريعة واتصالاته، وكان أبرزها آنئذ الاجتماع مع الرئيس صائب سلام الذي أكّد بعد اللقاء ان الشعور كان متبادلاً بالثقة والتفهم والتفاهم.

وقال: لبنان من دون التوافق الإسلامي – المسيحي ومن دون الديمقراطية البرلمانية السليمة لا يستمر وسيستمر لبنان. وبعد اتصالاته العربية التي كان يجريها الرئيس المنتخب مع العديد من الأوساط العربية أراد ان يوسع دائرة هذه الاتصالات، وخصوصاً مع سوريا، ويقول كريم بقرادوني في هذا الخصوص: «التقينا انا وبشير والياس سركيس وجوني عبده. وعهد الرئيس سركيس بناء على طلب بشير، إلى العميد سامي الخطيب قائد قوات الردع العربية الذهاب إلى دمشق لتأمين اجتماع لي ولجوني عبده مع القيادة السورية، فور تسلم بشير مقاليد الحكم، وعاد الخطيب برد إيجابي مبدئي بشأن هذا الاجتماع، على ان يتم تحديد موعده لاحقاً لكن هذا الاجتماع لم يتم قط، لأن الرئيس المنتخب بشير الجميل اغتيل يوم الثلاثاء في 14 أيلول 1982».