IMLebanon

“غلاف الجليل” بعد “غلاف غزة” أم قبله؟

 

لم يكن التلازم بين حرب غزة وجنوب لبنان مفاجئاً، فقد اعلن الامين العام لــ «حزب الله» السيد حسن نصرالله صراحة، انّه انخرط في المواجهة بقرار أحادي، فجر اليوم التالي لعملية «طوفان الأقصى»، بهدف مساندة المقاومة الفلسطينية «على طريق القدس»، مستبقاً التزام الأطراف الاخرى بـ «وحدة الساحات» في العراق وسوريا واليمن. وطالما انّ الحديث اقترب من معالجة ما سُمّي «غلاف غزة»، فإنّ بحثاً مماثلاً يطاول منذ أيام «غلاف الجليل الأعلى». وعليه، لمن ستكون الاولوية؟

بين الديبلوماسيين والمراقبين من يعتقد صادقاً انّه لم يكن على «حزب الله» سوى ان ينخرط في المواجهة، اياً كانت عناصر المفاجأة التي تسبّبت بها عملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها حركة «حماس» «منفردة»، وما أحدثته من صدمة بدرجات متفاوتة لدى الحلفاء والخصوم في آن معاً. فهو ملتزم بـ «المقاومة». فإلى من لم يصدّق ما جرى في توقيته وشكله وما انتهت إليه العملية «الحمساوية» في ساعات قليلة، هناك من كتم شعوره بالحرج لما شكّلته من استباق ربما لسيناريوهات مشابهة كان يستعد للقيام بها، وقد تعدّدت التهديدات في شأنها، ومعها الروايات التي راجت في الساعات الاولى على وقع الانهيار الأمني والاستخباري الذي شهدته الساحة الاسرائيلية، التي عجزت عن مواجهة ما حصل على اكثر من مستوى قبل معرفة ما جرى في «غلاف غزة» بعد خلوه من أي حضور اسرائيلي.

ولمّا سارعت تل ابيب الى إطلاق العنان لماكينتيها الإعلامية والديبلوماسية بتوصيف ما حصل وكأنّه «الهولوكوست الثاني» او «النكبة الثانية»، وانّ عملية شبيهة بـ «أحداث 11 أيلول» قد تكرّرت، لاستدراج العطف والدعم الدوليين استناداً الى مجموعة من الاكاذيب، فقد استعجلت بث البيانات العسكرية والحكومية قبل تبيان ما حصل وانقشاع غبار «الغزوة» المفاجئة. فسارعت إلى الادّعاء بوقوع مجازر في حق المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة. وتزامناً مع ما سجّلته ردّات الفعل «الدولية العمياء» التي تسابقت في تصوير الظلم اللاحق بالدولة العبرية، مستندةً الى هذه الروايات المفبركة، سجّلت سقطات عظيمة لزعماء وحكومات ومؤسسات على اكثر من مستوى.

 

وقبل ان يضطر أبطال هذه «السقطات» الى تكذيبها وتوضيحها بسرعة متفاوتة للخروج من أعبائها الأخلاقية والإنسانية قبل الديبلوماسية والسياسية، انطلقت في المقابل مواقف المؤيّدين للعملية ومعها السيناريوهات المختلفة، فتوزعت بين ما هو منطقي يمكن التوقف عنده وتبريره، لمجرد قدرة أصحابها على الحصول في ساعات قليلة على معلومات سريعة من مصادرها الأساسية الموثوقة، سجّلت أخرى «همايونية» استبقت كثيراً مما لم يكن واضحاً من وقائع في بداية العملية، قبل فهم ما حصل في عملية صاعقة قلبت موازين القوى في منطقة حساسة. فجاءت مستغربة جداً، وخصوصاً عندما سعى بعض الاطراف الى الادّعاء أنّه كان على علم بها، قبل تبنّي انجازاتها والإيحاء بأنّه كان على تنسيق مسبق في شأنها، قبل ان يؤكّد أصحاب العملية تفرّدهم بها تخطيطاً وتنفيذاً. وفي موازاة تبرئة الإدارة الاميركية إيران منها وفقدان ما يشير الى انغماسها فيها قبل ان تقول طهران ومؤيدوها كلمتها التي تلاقت مع رؤية واشنطن على ألسنة مسؤوليها الكبار، ملقيةً اللوم على أطرافها الفلسطينيين.

 

على هذه الخلفيات تلاحقت العمليات العسكرية، وفي موازاة البحث عمّا ادّى إلى عملية «حماس» وحلفائها الذين انخرطوا في المعركة في أوقات متفاوتة قياساً على أحجامهم وقدراتهم وإمكاناتهم القتالية، تركّزت أهدافها بدايةً على استعادة السيطرة على ما فقدته اسرائيل من مناطق ومواقع لإبعاد المسلحين عنها، قبل ان ينفجر الوضع بعد عشرين يوماً، ببدء العملية البرّية التي قادها الجيش في قطاع غزة الى ما انتهت اليه حتى اليوم.

 

وأمام هذه الصورة البانورامية، تعترف المراجع الديبلوماسية، والذين يتابعون أدق التفاصيل نتيجة ما على طاولاتهم من تقارير ومعلومات موثوقة حول حقيقة المواقف المعلن عنها وغير المعلنة، الداخلية منها والإقليمية والدولية المنخرطة في البحث عن آلية وقف ما يجري، أنّها بلغت مرحلة متقدّمة يجري التعبير عنها بأشكال مختلفة. وما هو لافت انّ المخارج المطروحة لم تقتصر على ما يجري في غزة وما سيكون عليه الوضع في اليوم الأول ما بعد وقف النار في ما يُسمّى «غلاف غزة»، وصولاً الى معالجة ما يجري على الجبهة الشمالية مع لبنان، وتحديداً في ما يُسمّى «غلاف الجليل الأعلى» من بوابة إعادة الاعتبار الى القرار 1701 وما أقرّ من تعديلات على «قواعد الاشتباك» منذ 30 آب 2022. فهو القرار الذي جمّد العمليات العسكرية منذ 12 آب 2006 على جانبي الحدود، كما بالنسبة الى الحلول التي يمكن التوصل اليها من اجل عدم تكرار ما حصل.

 

وتأسيساً على هذه المعطيات، فقد كشفت المراجع نفسها عن قرب التوصل الى رؤية رباعية الوجوه على مستوى «قطاع غزة» وهي تقول بـ:

– ضرورة إحياء البحث في «حل الدولتين» لمنع اي احتمال بتكرار ما حصل في «غلاف غزة»، وإنهاء الوضع الشاذ في الضفة الغربية ومناطق السلطة الفلسطينية.

– ليس مسموحاً ان يبقى الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة وانسحابه واجب فور التوصل إلى الحل.

– اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة أرض فلسطينية واحدة رغم انفصالهما الجغرافي.

– لا «هجرة قسرية» ولا «ترانسفير فلسطيني» من غزة اياً كانت الظروف التي يمكن ان تتحكّم بالقطاع.

 

وقياساً على الحل المنتظر للقطاع، تبدو المساعي مستمرة لخلق «ستاتيكو» مماثل في «غلاف الجليل الأعلى» مع لبنان. وبمعزل عمّا يمكن التوصل إليه في الكواليس الديبلوماسية والسياسية، فإنّ هناك اعترافاً ضمنياً، لا نقاش فيه، أنّ القرار 1701 يُخرق منذ اليوم التالي لصدوره في 13 آب 2006 وحتى الأمس. وإن كانت اسرائيل الاولى في تسجيل آلاف الخروق البرية والبحرية والجوية، فإنّ هناك خروقاً اخرى تجلّت أخيراً في السماح بخطوات غير مألوفة نتيجة انتشار قواعد صواريخ «حزب الله» في قلب مناطق «اليونيفيل» وعلى الحدود. وإن كانت خيم «اخضر بلا حدود» على بُعد أمتار قليلة من الجدار الإسمنتي ومواقع الجيش والقوات الدولية خرقاً مماثلاً تمّ التغاضي عنه لسنوات، فإنّ استخدام الصواريخ في «المتر الاخير» من الجانب اللبناني من «الخط الأزرق» منذ 8 تشرين الأول الماضي قد تجاوز كل الخروق.

 

على هذه القواعد المتشابكة والمعقّدة يمكن فهم المطالبة الدولية بتطبيق القرار 1701 لضمان نجاح الضغوط القائمة لمنع إسرائيل من القيام بأي عمل عسكري تجاه لبنان، ان كان قرار الحرب والسلم بيدها كما يقول لبنان، فإنّ عليه السعي الى اتخاذ ما هو مطلوب من قرارات لترتيب الوضع على الحدود. وعليه فإنّه ليس من السهل الإشارة الى ما يمكن ان تؤدي اليه هذه المساعي. وليبقى السؤال المنطقي المطروح: هل سيكون في الإمكان التفاهم على ترتيبات في «غلاف الجليل الأعلى» قبل «غلاف غزة» أم العكس؟ علماً انّ الجواب ما زال صعباً إن لم يكن مستحيلاً في ظلّ النزاع الدولي الذي بلغ الذروة في اكثر من منطقة متوترة في العالم.