IMLebanon

جيرو: لبنان يفقد هويَّته بعد وظيفته وحوار المحابر أفضل من حوار الخناجر

بدأ الحوار بالجملة والمفرّق، وبدأت ديناميته تُثير فضول الديبلوماسيّين. كولسات في بيت الوسط، نقاش حصري في عين التينة، حمام زاجل بين معراب والرابية، وعصف فكري نخبوي تستضيفه بعض الجامعات، يحاول أن يقارب الشأن الوطني من زوايا عدّة.

لم تذهب جولات الموفد الفرنسي فرنسوا جيرو هدراً. تقريره الشامل حرّكَ عصَب المجموعة الدوليّة الخاصة بدعم لبنان، إستشعرت حالة إنقلابيّة تحت عباءة أمنيّة، هناك من يسعى الى اجتياح السيادة بإسم الإرهاب، وهناك من يسعى الى «اجتياح» الوطن والصيغة والدستور والميثاق تحت شعار محاربة الإرهاب.

كانت جولات جيرو، والخلاصات التي توصّل اليها، حديث الصالونات الديبلوماسيّة. وَجَد أنّ لبنان من دون دور أو وظيفة، قراره مصادر، وخياراته تُمليها قرقعة السلاح، خطفته بعض المحاور بعيداً، وحوّلت ساحته مساحة أمنية – ميدانيّة، تارة في مواجهة إسرائيل، وتارة أخرى في مواجهة الإرهاب، ودائماً وفق دفتر شروط وإملاءات معلّبة تتوافق ومصالح الخارج على حساب المصلحة الوطنيّة.

أشار الى ضرورة انتزاع الدور، واستعادة الوظيفة، ساحته مساحة حوار، وحريّة، وانفتاح. أثارت خلاصاته واستنتاجاته حفيظة المجموعة الدوليّة فتحرّكت، وكانت هناك رغبة في إعادة ترتيب سلم الأولويات بعدما طغى المشهد الأمني على ما عداه، من عرسال الى بريتال، ومن وادي حميّد الى وادي خالد، ومن «داعش» الى «جبهة النصرة»، ومن ريف القنيطرة الى مزارع شبعا، ومن ثلاثيّة الجيش والشعب والمقاومة، الى ثلاثيّة «المحور المقاوم». إنتهى زمن الحوار عندما بدأت محاولات «عسكرة السياسة»، وعندما أخرج المسدس من وسط حامله، ليستقر على الطاولة جنباً الى جنب القلم، وجدول الأعمال».

لم تنته مهمة جيرو، ولكن لا بدّ من بداية تغيير في المشهد الداخلي، ومن رسملة متواضعة تشجّعه على استئناف الحراك، هو شخصيّاً، أو مَن ينوب عنه. وما تشهده بعض الصالونات والكولسات شيء من المحاولات المتواضعة الرامية الى ضخّ دم جديد في شرايين الحوار، فالمداخن كثيرة، لكنّ الدخان المتصاعد لا يزال لغاية الآن رماديّاً.

النقطة الثانية والمهمّة في الخلاصات التي انتهى اليها تتمثّل بالحالة الإنقلابيّة. لم يَنل السلاح اللاشرعي من الدور والوظيفة فحسب، بل أحدث حالة إنقلابيّة. يسأل الفاتيكان اللبنانيين عن مصير السينودس الخاص بلبنان، وقد أقسموا وتعهّدوا على احترامه والعمل بوَحيه.

ويسأل العرب عن مصير السينودس الخاص بمسيحيّي الشرق، وهل ما آل اليه وضعهم في العراق وسوريا هو من القيم والشيم والشرف الرفيع. الإنقلاب على السينودس إنقلاب على خصوصيّة لبنان وفرادته. والانقلاب على سينودس الشرق، إنقلاب على التوازنات النوعيّة الثقافيّة الحضاريّة التي شكّل تفاعلها على مر العصور عقداً مشرقيّاً مرصّعاً مترابط الحلقات.

ويسأل رعاة الطائف من أقربين وأبعدين عن مصيره، وكيف يجوز التحارب على اقتسام صلاحيات رئيس الجمهورية في مجلس الوزراء، بدلاً من التباحث والتقارب والتفاهم على وجوب انتخابه إنقاذاً للجمهوريّة المخلّعة الأبواب، المُستباحة أمام الرياح الخارجيّة التي تتلاعب في أرجائها، وتُهدّد أركانها من كلّ حدب وصوب. ما يجري داخل مجلس الوزراء، وفي محيطه، ومن حوله إنّما يخدم مشاريع الحالة الإنقلابيّة، ولَو بشكل غير إراديّ، وتجنّب الخطأ لا يكون بارتكاب خطأ أكبر.

قبل جيرو، ومعه، وبعده، زارت لبنان وفود أوروبيّة عدّة تستكشف آفاق المرحلة، من موقع الحرص على العلاقات والمصالح، واكتشفت أنّ الجسم اللبناني يعاني نزيفاً حاداً، وأنّ اللبنانيّين يفقدون يوماً بعد يوم المناعة الوطنيّة، وأصبحت الأولوية عندهم محصورة بثبات الجيش وتسليحه، كونه الملاذ الوحيد والأخير للدفاع عن وجودهم واستمراريتهم، في ظلّ الارتهان، والتبعيّة، والفساد، والقلوب المتنافرة، والطوائف المتباعدة، والقيادات المأخوذة بالحسابات الخاصة، والمكاسب الشخصيّة.

وما بين وَقف الانقلاب الذي يقوده سلاح الآخرين، واستعادة الدور والوظيفة، يدور الحوار، وتتّسع مروحته، وتتكاثر صالوناته. قد لا ينبعث الدخان الأبيض من مدخنته، غداً أو بعده، ولكنّ الحاجة تقتضيه للتفاهم على ضرورتين: رفض الشريك في الوطن أن يكون مواطناً من الدرجة الثانية لأنه لا يملك سلاحاً يُقارع به، ورفض أن يستمر الآخر الذي يملك السلاح في انقلابه لمصالح خارجيّة إقليميّة – دوليّة.

وبين الرفضين لا بدّ من أن تتكوّن مناعة وطنية مكتسبة بفضل الحوار للتفاهم على الوظيفة والدور الذي يفترض أن يؤديه لبنان على مستوى «الأنا» أولاً، ومن ثم على مستوى المنطقة، بدلاً من التصارع على اقتسام صلاحيات الرئيس، أو التلهّي بردم الحوض الرابع، و»الأحواض» الأخرى في المرافق العامة، بالمذهبيات، والكيديات، والأحقاد، والنفاق السياسي للتمادي في الفساد وتناتُش ما تبقّى من «جبنة» الوطن.

أوصى جيرو بأنّ الإنقلاب الذي يقوده حملة السلاح، يفقد لبنان هويته بعدما أفقده دوره، وأنّ حوار المحابر أفضل من حوار الخناجر.